للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٣ - التشويش على وقت صلاة الفجر]

يقول السائل: حصلت بلبلةٌ بين المصلين في المسجد الأقصى المبارك في مسألة وقت صلاة الفجر وأنه غير صحيح، وزعم بعض الناس أنه يجوز للمسلم أن يأكل ويشرب إلى أن ينتشر الضوء، وبعض هؤلاء يدعوا الناس إلى أن يصلوا الفجر قبل طلوع الشمس بنصف ساعة، فما قولكم في ذلك، أفيدونا؟

الجواب: يقول الله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} سورة البقرة الآية ١٨٧. وقد أخذ جمهور أهل العلم من هذه الآية الكريمة أن بداية الصوم تكون عندما يتبين الفجر الصادق من الفجر الكاذب، ويكون ذلك عندما ينشق في الأفق نورٌ منتشرٌ مستطيرٌ يشق ظلمة الليل، وليس المقصود من الآية الكريمة انتشار الضوء الذي يملأ الجبال والوهاد، ويلاحظ أولاً أن الآية الكريمة عبرت بكلمة {الخيط} وفيها دلالة على أنه يبدأ دقيقاً بأرق ما يكون من مثل الخيط ثم يسفر، قال العلامة محمد رشيد رضا: [وما أحسن التعبير عن أول طلوع الفجر بالخيطين، والخيط الأبيض هو أول ما يبدو من الفجر الصادق، فمتى أسفر لا يظهر وجه لتسميته خيطاً، فما ذهب إليه بعض السلف كالأعمش من أن ابتداء الصوم من وقت الإسفار تنافيه عبارة القرآن] تفسير المنار ٢/١٧٨. ويلاحظ ثانياً أن الآية الكريمة ذكرت {مِنَ الْفَجْرِ} والفجر هو أول انشقاق آخر ظلمة الليل بضوء الصباح، قال ابن منظور: [الفجر ضوء الصباح وهو حمرة الشمس في سواد الليل، وهما فجران: أحدهما المستطيل وهو الكاذب الذي يسمى ذنب السرحان، والآخر المستطير وهو الصادق المنتشر في الأفق الذي يحرم الأكل والشرب على الصائم، ولا يكون الصبح إلا الصادق] لسان العرب ١٠/١٨٧. قال الإمام الطبري: [وأما قوله: {من الفجر} فإنه تعالى ذكره يعني حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود الذي هو من الفجر. وليس ذلك هو جميع الفجر، ولكنه إذا تبين لكم أيها المؤمنون من الفجر ذلك الخيط الأبيض الذي يكون من تحت الليل الذي فوقه سواد الليل، فمن حينئذ فصوموا، ثم أتموا صيامكم من ذلك إلى الليل. وبمثل ما قلنا في ذلك ... قال ابن زيد في قوله: {من الفجر} قال: ذلك الخيط الأبيض هو من الفجر نسبة إليه، وليس الفجر كله، فإذا جاء هذا الخيط، وهو أوله، فقد حلت الصلاة وحرم الطعام والشراب على الصائم. قال أبو جعفر: وفي قوله تعالى ذكره: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} أوضح الدلالة على خطأ قول من قال: حلال الأكل والشرب لمن أراد الصوم إلى طلوع الشمس؛ لأن الخيط الأبيض من الفجر يتبين عند ابتداء طلوع أوائل الفجر] تفسير الطبري ٣/٥٣٠. ويلاحظ ثالثاً تعبير الآية الكريمة بلفظ {يتبين} بصيغة يتفعل، وهو حيث يتكلف الناظر نظره، وكأن الطالع، يتكلف الطلوع، ولم يقل: يبين، لأن ذلك يكون بعد الوضوح. وهذا يدل على أن المراد هو بداية الفجر وليس الفجر الذي يملأ الطرقات والجبال. ومما يؤيد قول الجمهور أن المقصود بالآية هو أوائل الفجر وليس انتشار الضوء، ما ورد في الحديث عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر من الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار) رواه البخاري ومسلم، ومن يقول إنه يجوز الأكل والشرب حتى ينتشر الضوء الذي يملأ الجبال والوهاد، فهذا يريد أن يفعل مثلما فعل عدي رضي الله عنه، ونقول له ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعدي: (إن وسادك لعريض) وفي رواية (إنك لعريض القفا) . ومما يدل على صحة ما ذهب إليه جمهور أهل العلم أن الثابت من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للفجر أنه كان يصليها بغلس، والغلس هو [ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح ... وقال الأزهري: الغلس أول الصبح حتى ينتشر في الآفاق] تاج العروس ٨/٣٨٧. وقد ورد في تغليس النبي صلى الله عليه وسلم بالفجر أحاديث كثيرة منها: قال أبو مسعود الأنصاري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نزل جبريل عليه السلام فأخبرني بوقت الصلاة فصليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه يحسب بأصابعه خمس صلوات فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ... وصلى الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات ولم يعد إلى أن يسفر) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأصله في الصحيحين. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد كان نساء من المؤمنات يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متلفعات بمروطهن- أكسيتهن - ثم ينقلبن إلى بيوتهن وما يعرفن من تغليس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة) رواه البخاري ومسلم. وأقول لمن يريد أن يجعل صلاة الفجر قبل طلوع الشمس بنصف ساعة كما زعم! كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر بغلس، وتنصرف النساء ولا يعرفن من الغلس، وفي الحديث الآخر (فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً) والنبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل القراءة في الفجر كما ثبت في الأحاديث أنه كان يقرأ في الفجر مابين الستين إلى المئة في الركعة الواحدة، فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة آية) . وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن ابن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى بسورة نحواً من ستين آية فسمع بكاء صبي قال فقرأ في الثانية بثلاث آيات.) وكذلك وردت آثار صحيحة عن كبار الصحابة أنهم كانوا يصلون الفجر بغلس، ويطيلون في القراءة، كما ورد عن أنس قال: صليت خلف أبي بكر رضي الله عنه الفجر فاستفتح البقرة فقرأها في ركعتين ... ) رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي وسنده صحيح كما قال الحافظ العسقلاني في فتح الباري ٢/٢٥٦. وصلى عمر رضي الله عنه الفجر فقرأ سورة يوسف وسورة الحج قراءة بطيئة) رواه مالك في الموطأ وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي وسنده صحيح، وورد أن عمر رضي الله عنه صلى الفجر فقرأ سورة الحج، وورد أنه قرأ البقرة، وورد أنه قرأ مئة آية من البقرة في الركعة الأولى وفي الركعة الثانية مئة آية من آل عمران، والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة، انظر جامع أحاديث وآثار القراءة في الصلاة للدكتور إبراهيم العبيد ص ١٤- ١٠٤، وهذه أدلة واضحة على تغليس النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده بالفجر، قال الإمام الترمذي: [وهو الذي اختاره غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبو بكر وعمر ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق يستحبون التغليس بصلاة الفجر.] سنن الترمذي ١/٢٨٩. ومما يؤيد ما سبق ما ورد في أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإقامة صلاة الفجر عندما يبرق الفجر، أي في أوله وليس عند انتشار الضوء، وهذه بعض الأحاديث التي تدل على ذلك: فعن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (أمنى جبريل عليه السلام عند البيت مرتين فصلى الظهر ... ثم صلى الفجر حين برق الفجر ... ) رواه أحمد والترمذي، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي ١/٥٠. وفي حديث آخر (فأمر بلالاً فأقام حين طلع الفجر) رواه مسلم، وفي حديث آخر (وصلى الفجر حين سطع الفجر) رواه أحمد وابن حبان والبيهقي، وإسناده صحيح على شرط الشيخين كما قال الشيخ شعيب الأرناؤوط. وفي حديث آخر (فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً) رواه مسلم. وفي حديث آخر (حين بزق الفجر) رواه الطبراني في الكبير، وروى عبد الرزاق بإسناده أن عمر كتب إلى أبي موسى أن صل الظهر إذا زالت الشمس ... وصل الصبح والنجوم بادية مشتبكة وأطل القراءة) ورواه ابن أبي شيبة ومالك أيضاً. فهذه الألفاظ الواردة في الأحاديث والآثار السابقة تدل على أن صلاة الفجر تكون في أول الفجر وليس عندما ينتشر في الطرقات والجبال. انظر مسائل في الفقه المقارن للدكتور سعدي جبر ص ١٠ فما بعدها.

إذا تقرر هذا فإنه لا بد من التوضيحات التالية حول هذه المسألة:

١- التوقيت المعمول به في الضفة الغربية وضعته لجنة من أهل الشرع والخبرة وتم وضعه في الأردن بعد مشاهدات كثيرة وأعرف اثنين من أعضاء اللجنة، وليس من وضع الغرب كما زعم أحدهم!! وكذا التوقيت المعمول به في مصر وفي السعودية هنالك لجان من أهل العلم والخبرة أشرفت على وضعه.

٢- لا أزعم أن هذا التوقيت دقيق مئة في المئة وإنما هو أقرب إلى الصواب وغلبة الظن تكفي للعمل به. قال العلامة العثيمين [ ... بعض الناس الآن يشككون في التقويم الموجود بين أيدي الناس، يقولون: إنه متقدم على طلوع الفجر، وقد خرجنا إلى البر وليس حولنا أنوار، ورأينا الفجر يتأخر، حتى بالغ بعضهم وقال: يتأخر ثلث ساعة، لكن الظاهر أن هذا مبالغة لا تصح، والذي نراه أن التقويم الذي بين أيدي الناس الآن فيه تقديم خمس دقائق في الفجر خاصة]

٣- لو فرضنا أن هذا التوقيت خطأ، فأقول لمن خطأه كيف سيعرف الناس وقت صلاة الفجر؟ هل تطلبون من كل شخص أن يرقب الفجر بنفسه كما طالب أحدهم بأن كل واحد يرقب الفجر بنفسه؟ أليس في هذا إيقاعٌ للناس في الحرج؟ وأقول كيف سيرقب ملايين المسلمين الفجر في هذا الزمن وقد انتشرت الأضواء الكهربائية في المدن والقرى مما يمنع صحة الرؤية! ولو فرضنا أن الناس كلهم راقبوا الفجر ألا يختلفون في الرؤية فبعضهم سيقول رأيته وبعضهم يقول لم أره! فما هو الحل؟ ثم ماذا نصنع في الشتاء والأجواء ملبدة بالغيوم؟ وماذا نصنع مع زيادة تلوث الجو؟

٤- كلام هؤلاء أن التوقيت خطأ وأنه من صنع الغرب ينسحب على بقية أوقات الصلاة، فلماذا يقبلون التوقيت في صلاتي الظهر والعصر، ولا يقبلونه في بقية الصلوات؟ وهل يقومون بمراقبة ميل الشمس في صلاتي الظهر والعصر وهل يدعون الناس إلى ذلك؟!

٥- إن إحداث البلبلة بين عامة الناس وتشكيكهم في عباداتهم من صلاة وصيام بدون دليل واضح كوضوح الشمس إفك عظيم.

٦- إن البيانات التي وزعت مشككة بالتوقيت تفتقد للتحقيق العلمي، وبنيت على فهم خاطئ للنصوص، ويظهر فيها التعالم واضحاً، وتضمنت الطعن في العلماء كقول أحدهم عن العلماء بأنهم أجراء مأمورون، وكقول أحد الأفاكين عن العلماء بأنهم لا يتقون الله ولا يخشونه وأنهم ينتصرون للباطل، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} .

٧- وأقول لجماهير المسلمين في بلادنا لا تلقوا بالاً لهؤلاء وأمثالهم، واطمأنوا إلى أن صيامكم صحيح وصلاتكم في الوقت إن شاء الله تعالى، وخاصة أن معظم مساجدنا تنتظر ثلث ساعة إلى نصف ساعة بين أذان وإقامة صلاة الفجر، وهذا يجعلكم تصلون الصلاة في وقتها، وأما بدء الصيام متقدماً عن الوقت المقرر شرعاً فلا حرج فيه إن شاء الله تعالى،

وأختم كلامي بفتوى للعلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه حيث سئل السؤال التالي: يؤذن الفجر عندنا قبل طلوع الشمس بساعة وأربعين دقيقة ونصلي صلاة الفجر بعد الأذان بعشرين دقيقة تقريباً يعني قبل طلوع الشمس بساعة وعشرين دقيقة هل صلاتنا موافقة للسنة؟ الجواب: نعم، الصلاة صحيحة إن شاء الله؛ لأن الغالب أن بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ساعة ونصف تقريباً، لكن لو أخرتم وصليتم قبل الشمس بساعة أو ساعة وخمس دقائق يكون أحوط وأحسن، والأذان قبل طلوع الشمس بساعة وأربعين دقيقة فيه تبكير، وهو أذان قبل الوقت، فلو أخر وأذن قبل طلوع الشمس بساعة ونصف تقريباً يكون هذا أحوط لدخول الوقت، فإذا كانت الصلاة قبل طلوع الشمس بساعة ونحوها فهو أحوط لأداء الصلاة في وقتها؛ لأن الغالب أن بين طلوع الفجر وطلوع الشمس نحو ساعة ونصف، أو ساعة ونصف إلا خمس دقائق، أو ما يقارب هذا، فالمؤمن يحتاط لهذا الأمر ولا يعجل، لا في الأذان، ولا في الصلاة، فالتأخير أحوط في مثل هذا حتى يتأكد من دخول الوقت.] وأقول أخيراً إنه من المعلوم أن بين الأذان وطلوع الشمس في بلادنا ساعة وثلث إلى ساعة ونصف تقريباً، وأن معظم المساجد تقام فيها صلاة الفجر بعد ثلث ساعة إلى نصف ساعة من الأذان، وهذا يجعلنا نوقن أن صيامنا وصلاتنا واقعان في الوقت المقرر شرعاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>