للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٩ - كثرة حلف الأيمان.]

يقول السائل: كثير من الناس وخاصة التجار يكثرون من الحلف في تعاملهم مع بعضهم بعضاً فتسمع التاجر يحلف والسائق يحلف وصاحب الحرفة يحلف، فما حكم هذه الأيمان؟

الجواب: إن كثرة حلف الأيمان من الناس تدل على نقصان ثقتهم بعضهم ببعض فيلجئون للحلف حتى يصدقوا فيما يقولون وهذه حال أكثر التجار فإنهم يكثرون من الأيمان ليصدقهم الناس في كلامهم. وكثرة الحلف مكروهة هذا إذا كان الحالف صادقاً قال الله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) سورة المائدة الآية ٨٩. قال القرطبي: [أي بترك الحلف فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات] تفسير القرطبي ٦/٢٨٥. ونقل القرطبي أيضاً عن بعض المفسرين في قوله تعالى: (ولآ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآية ٢٢٤، [بأن المعنى لا تكثروا من اليمين بالله تعالى فإنه أهيب للقلوب ولهذا قال الله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) وذمَّ من كثّر اليمين فقال الله تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) والعرب تمتدح بقلة الأيمان ... ] تفسير القرطبي ٣/٩٧. وأما إذا كان الحالف كاذباً متعمداً للكذب فقد وقع في الحرام قال الله تعالى: (إن الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة آل عمران الآية ٧٧. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحلف في البيع والشراء ويلحق به غيرهما من وجوه التعامل بين الناس فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة ? قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي قتادة الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق) رواه مسلم.

قال الإمام النووي: [وفيه النهي عن كثرة الحلف في البيع فإن الحلف من غير حاجة مكروه وينضم إليه ترويج السلعة وربما اغتر المشتري باليمين] شرح النووي على صحيح مسلم ٣/٢٢٠. وقال الحافظ أبو العباس القرطبي المحدّث - وهو شيخ القرطبي المفسر -: [ووله: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للربح) الرواية: منفقة ممحقة - بفتح الميم وسكون ما بعدها وفتح مابعدها - وهما في الأصل مصدران مزيدان محدودان بمعنى: النَّفاق. والمحق أي الحلف الفاجرة تنفق السلعة وتمحق بسببها البركة فهي ذات نفاق وذات محق. ومعنى تمحق البركة أي تذهبها وقد تذهب رأس المال كما قال الله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) وقد يتعدى المحق إلى الحالف فيعاقب بإهلاكه وبتوالي المصائب عليه وقد يتعدى ذلك إلى خراب بيته وبلده كما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع) أي: خالية من سكانها إذا توافقوا على التجرؤ على الأيمان الفاجرة. وأما محق الحسنات في الآخرة فلا بد منه لمن لم يتب وسبب هذا كله أن اليمين الكاذبة يمين غموس يؤكل بها مال المسلم بالباطل. وقوله: (إياكم وكثرة الحلف فإنه ينفق ثم يمحق) إياكم معناه الزجر والتحذير ... أي: إحذره واتقه وإنما حذر من كثرة الحلف لأن الغالب ممن كثرت أيمانه وقوعه في الكذب والفجور وإن سلم من ذلك على بعده لم يسلم من الحنث أو الندم لأن اليمين حنث أو مندمة وإن سلم من ذلك لم يسلم من مدح السلعة المحلوف عليها والإفراط في تزيينها ليروجها على المشتري مع ما في ذلك من ذكر الله تعالى لا على جهة التعظيم بل على جهة مدح السلعة فاليمين على ذلك تعظيم للسلع لا تعظيم لله تعالى وهذه كلها أنواع من المفاسد لا يقدم عليها إلا من عقله ودينه فاسد] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ٤/٥٢٢-٥٢٣. وجاء في الحديث عن عبد الله بن أبي أوفى ?: (أن رجلاً أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ليوقع فيها رجلاً من المسلمين فنزلت: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا)) رواه البخاري. وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم قال: فقرأها رسول الله ثلاث مرار. قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) رواه مسلم. والمسبل هو الذي يجر رداءه تكبراً واختيالاً والمنان هو الذي لا يعطي شيئاً إلا منة. وعن سلمان ?: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: أشيمط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه) رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير ١/٥٨٩. وجاء في رواية أخرى: (رجل اتخذ الأيمان بضاعة يحلف في كل حق وباطل) رواه الطبراني وقال الشيخ الألباني: حسن، كما في المصدر السابق. والأشيمط الزاني هو الرجل الكبير في العمر ومع ذلك يزني والعائل المستكبر هو ذو العيال المتكبر وغير ذلك من الأحاديث.

فعلى التجار أن يتقوا الله في أنفسهم وأن لا يكثروا من الأيمان. قال أبو حامد الغزالي: [ولا ينبغي أن يحلف عليه البتة فإنه إن كان كاذباً فقد جاء باليمين الغموس وهي من الكبائر التي تذر الديار بلاقع. وإن كان صادقاً فقد جعل الله عرضة لأيمانه وقد أساء فيه إذا الدنيا أخس من أن يقصد ترويجها بذكر اسم الله من غير ضرورة ... فإذا كان الثناء على السلعة مع الصدق مكروهاً من حيث أنه فضول لا يزيد في الرزق فلا يخفى التغليظ في أمر اليمين] إحياء علوم الدين ٢/٧٧.

وأخيراً فإن التاجر إذا كثر منه الحلف فعليه أن يكثر من الصدقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة) أي اخلطوه بالصدقة رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ٢/٦٤٠. ?????

<<  <  ج: ص:  >  >>