للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٦٨ - التعدد]

تقول السائلة: إنها امرأة متزوجة منذ أكثر من عُشرين سنة وإن زوجها قد تزوج امرأة ثانية وصار يقضي معظم وقته عند الثانية وينفق على الثانية ويبخل عليَّ مع أنني ساندته في أول حياته حتى وقف على رجليه فما حكم الشرع في ذلك؟

الجواب: إن كثيراً من الأزواج يظلمون نسائهم وخاصة الذين يعددون فيميلون إلى الزوجة الثانية وينسون الأولى. وإن التعامل السيء للأزواج الذين يعددون مع زوجاتهم قد أساء إلى قضية تعدد الزوجات وأعطى الناس صورة سلبية عن التعدد حتى صار التعدد مقروناً بالظلم. وأصل تعدد الزوجات مشروع وقد نصت الآية الكريمة على ذلك قال الله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) سورة النساء الآية ٣. وقد أجمع المسلمون على جواز التعدد ولكن التعدد مشروط بشرطين الشرط الأول وهو العدل وهو مأخوذ من قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) . والشرط الثاني هو المقدرة على الإنفاق على الزوجتين أو أكثر ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) سورة النور الآية ٣٣. [فقد أمر الله تعالى بهذه الآية الكريمة من يقدر على النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعفف، ومن وجوه تعذر النكاح من لا يجد ما ينكح به من مهر، ولا قدرة له على الإنفاق على زوجته. وكذلك يستدل على شرط الإنفاق بقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) سورة النساء، الآية ٣. فقد روي عن الإمام الشافعي أنه قال في معنى: (ألا تعولوا) أي لا يكثر عيالكم. وفي هذا إشارة إلى شرط الإنفاق؛ لأن الخوف من كثرة العيال لما تؤدي إليه هذه الكثرة من ضرورة كثرة الإنفاق التي قد يعجز عنها من يريد الزواج بأكثر من واحدة، فيفهم من ذلك أن القدرة على الإنفاق على الزوجات عند إرادة التعدد شرط لإباحة هذا التعدد، كذلك قد يستدل على شرط القدرة على الإنفاق بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: (يا معُشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ لبصر وأحفظ للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) . فإذا لم يستطع على مؤونة الزواج لم يجز له الزواج وإن كان هو زواجه الأول، فمن باب أولى أن لا يباح له الزواج بالثانية – وعنده زوجة – إذا كان عاجزاً عن الإنفاق على الثانية مع إنفاقه على الأولى ثم إن الإقدام على الزيجة الثانية – مع علمه بعجزه عن الإنفاق عليها مع الأولى- عمل يتسم بعدم المبالاة بأداء حقوق الغير، ويعتبر من أنواع الظلم، والظلم لا يجوز في شرعة الإسلام. وبناء على جميع ما تقدم، يعتبر من الظلم المحظور أن يقدم الرجل على الزواج بأخرى مع وجود زوجة عنده، ومع علمه بعجزه عن الإنفاق على زوجتيه الجديدة والقديمة] المفصل في أحكام المرأة ٦/ ٢٨٩. وينبغي أن يعلم أن العدل بين الزوجات واجب شرعي ومن آثار العدل بين الزوجات القسمة بينهن بأن يقسم وقته بين زوجاته كأن يكون عند الأولى ليلة وعند الثانية ليلة أخرى وهكذا. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [لا نعلم بين أهل العلم في وجوب التسوية بين الزوجات في القسم خلافاً، وقد قال الله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) سورة النساء الآية ١٩.، وليس مع الميل معروف، وقال الله تعالى: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) سورة النساء الآية ١٢٩] المغني ٧/٣٠١. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين زوجاته فيعدل بينهن وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. ولا بد لمن عدد الزوجات من العدل في النفقة والكسوة والمسكن وغير ذلك من الأمور المادية التي يملكها الإنسان وأما الأمور التي لا يملكها الإنسان كالحب أو الميل القلبي فهذه خارجة عن إرادة الإنسان فلا حرج عليه فيها وعلى ذلك يحمل قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) سورة النساء الآية ١٢٩. قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب. فوصف الله تعالى حالة البشر وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) . ثم نهى فقال: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) ، قال مجاهد: لا تتعمدوا الإساءة بل الزموا التسوية في القسم والنفقة؛ لأن هذا مما يستطاع] تفسير القرطبي ٥/ ٤٠٧. وهذه الآية الكريمة في الأمور المعنوية وأما الأمور المادية فالعدل فيها واجب وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج من عدم العدل فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وهو حديث صحيح كما قال الألباني في إرواء الغليل ٧/ ٨٠. وفي رواية أبي داود (جاء يوم القيامة وشقه مائل) وهذا الحديث دليل على وجوب العدل بين الزوجات وحرمة الميل في الإنفاق والقسمة والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (وشقه ساقط أو مائل) أي نصفه مائل بحيث يراه أهل العرصات يوم القيامة ليكون هذا زيادة في التعذيب، انظر تحفة الأحوذي ٤/ ٢٤٨. وقد اعتبر الشيخ ابن حجر المكي ترجيح إحدى الزوجات على الأخرى ظلماً وعدواناً من كبائر الذنوب فقال: [أخرج الترمذي وتكلم فيه الحاكم وصححه على شرطهما عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط) وأبو داود (من كانت له إمرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) والنسائي: (من كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل) ، وفي رواية لابن ماجة وابن حبان في صحيحهما (وأحد شقيه ساقط) . والمراد بقوله (فمال) وقوله (يميل) الميل بظاهره بأن يرجح إحداهما في الأمور الظاهرة التي حرم الشارع الترجيح فيها لا الميل القلبي لخبر أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب) وقال الترمذي: روي مرسلاً وهو أصح. وروى مسلم وغيره (إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) . تنبيه: عدُّ هذا هو قضية هذا الوعيد الذي في هذه الأحاديث وهو ظاهر وإن لم يذكروه لما فيه من الإيذاء العظيم الذي لا يحتمل] الزواجر عن اقتراف الكبائر ٢/ ٨٠ – ٨١.

وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في العدل بين الزوجات وهذه صورة من عدله صلى الله عليه وسلم بين نسائه: روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قلَّ يوم إلا هو يطوف علينا جميعاً، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها) . وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل منهن يومها وليلتها) . ويقول جابر بن زيد: [كانت لي امرأتان فكنت أعدل بينهما حتى في القبل] . وقال مجاهد: [كانوا يستحبون أن يعدلوا بين النساء حتى في الطيب: يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه] . وقال ابن سيرين: [إنه يكره للزوج أن يتوضأ في بيت إحدى زوجتيه دون الأخرى] . وقال أبو القاسم: [ويكفيك ما مضى من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين في هذا، ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه قسم إلا يوماً هاهنا، ويوماً هاهنا] . وقال ابن قدامة: [ويقسم الرجل بين نسائه ليلة ليلة، ويكون النهار في معاشه وقضاء حقوق الناس، إلا أن يكون معاشه ليلاً كالحراسة، فإنه يقسمه نهاراً، ويكون ليله كنهاره] عُشرة النساء ص ٣٢٠- ٣٢١. وخلاصة الأمر أن العدل واجب بين الزوجات في الأمور المادية.

<<  <  ج: ص:  >  >>