يقول السائل: إنه قدم طلباً لأحد البنوك الإسلامية لشراء مواد بناء مرابحة بمبلغ ثلاثين ألف دينار، وقد تمت المعاملة، وقد اتفق مع التاجر الذي باع السلع للبنك أن يعطيه عشرة آلاف دينار نقداً، والباقي مواد بناء، فما الحكم الشرعي لذلك، أفيدونا؟
الجواب: المرابحة هي بيع سلعة بمثل الثمن الذي اشتراها به البائع مع زيادة ربح معلوم متفق عليه، بنسبة من الثمن أو بمبلغ مقطوع سواء وقعت دون وعد سابق وهي المرابحة العادية، أو وقعت بناء على وعد بالشراء من الراغب في الحصول على السلعة عن طريق بنك إسلامي وهي المرابحة المصرفية. وهو أحد بيوع الأمانة التي يعتمد فيها على بيان ثمن الشراء أو التكلفة بإضافة المصروفات المعتادة. وثبتت مشروعية المرابحة بالأدلة التي تدل على مشروعية البيع بشكل عام. والصورة المعتمدة للمرابحة في البنوك الإسلامية هي أن يتفق العميل والبنك على أن يقوم العميل بشراء البضاعة بربحٍ معلومٍ بعد شراء البنك لها ودخولها في ملك البنك الإسلامي دخولاً فعلياً، وهذه الصورة متفرعة عن بيع المرابحة المعروف عند الفقهاء قديماً. وهو بيع جائز شرعاً إذا تحققت فيه الشروط والمعايير التي قررها الفقهاء، وأهمها أن يشتري البنك السلعة محل العقد شراءً حقيقياً تترتب عليه آثاره الشرعية كدخول السلعة في ملك البنك، جاء في معيار المرابحة:[يجوز للمؤسسة أن تشتري السلعة بناءً على رغبة عميلها وطلبه مادام أن ذلك متفق مع الضوابط الشرعية لعقد البيع ... يحرم على المؤسسة أن تبيع سلعة بالمرابحة قبل تملكها لها. فلا يصح توقيع عقد المرابحة مع العميل قبل التعاقد مع البائع الأول لشراء السلعة موضوع المرابحة، وقبضها حقيقةً أو حكماً بالتمكين أو تسليم المستندات المخولة بالقبض ... كما يعتبر بيع المرابحة غير صحيحٍ إذا كان عقد الشراء الأول باطلاً لا يفيد ملكاً تاماً للمؤسسة ... يجب التحقق من قبض المؤسسة للسلعة قبضاً حقيقياً أو حكمياً قبل بيعها لعميلها بالمرابحة للآمر بالشراء. الغرض من اشتراط قبض السلعة هو تحمل المؤسسة تبعة هلاكها، وذلك يعني أن تخرج السلعة من ذمة البائع وتدخل في ذمة المؤسسة. ويجب أن تتضح نقطة الفصل التي ينتقل فيها ضمان السلعة من المؤسسة إلى العميل المشتري وذلك من خلال مراحل انتقال السلعة من طرف لآخر ... يجب أن يكون كل من ثمن السلعة في بيع المرابحة للآمر بالشراء وربحها محدداً ومعلوماً للطرفين عند التوقيع على عقد البيع. ولا يجوز بأي حالٍ أن يُترك تحديد الثمن أو الربح لمتغيرات مجهولة أو قابلة للتحديد في المستقبل؛ وذلك مثل أن يعقد البيع ويجعل الربح معتمداً على مستوى الليبور الذي سيقع في المستقبل] المعيار الشرعي رقم ٥/١٠٥-١٢٩ من كتاب المعايير الشرعية الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية. إذا تقرر هذا فإنه عند التدقيق في السؤال يظهر التحايل المحرم في عقد المرابحة المذكور في السؤال لأنه تضمن الربا، حيث إن السائل أخذ جزءً من ثمن البضاعة نقداً وهو عشرة آلاف دينار وسيسددها بأكثر من ذلك، وهذا عين الربا المحرم قطعاً في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ويظهر أن هنالك تحايلاً محرماً قد وقع من الآمر بالشراء بالاتفاق مع البائع الذي باع للبنك، وهذا التحايل يقع في المرابحة على وجه الخصوص، لأن بعض الناس يكون بحاجة للنقد وليس بحاجة للسلعة، فيقوم بإبرام بيع مرابحة مع بنك إسلامي ومن ثم يتفق مع البائع على أنه لا يريد السلعة وإنما يريد النقد، ويكون هنالك نسبة من المبلغ للبائع، وهذا التحايل لا يتم لولا تساهل بعض موظفي البنوك الإسلامية في شراء السلع وقبضها قبضاً حقيقياً ومن ثم تسليمها فعلياً للآمر بالشراء، ومع الأسف فإن مسألة توكيل الآمر بالشراء قد كثرت لدى البنوك الإسلامية مما يسهل عملية التحايل بين الآمر بالشراء وبين البائع للبنك. [الأصل أن تشتري المؤسسة السلعة بنفسها مباشرة من البائع، ويجوز لها تنفيذ ذلك عن طريق وكيل غير الآمر بالشراء، ولا تلجأ لتوكيل العميل الآمر بالشراء إلا عند الحاجة الملحة. ولا يتولى الوكيل البيع بنفسه، بل تبيعه المؤسسة بعد تملكها العين ... يجب اتخاذ الإجراءات التي تتأكد المؤسسة فيها من توافر شروط محددة في حالة توكيل العميل بشراء السلعة، ومنها: أ- أن تباشر المؤسسة دفع الثمن للبائع بنفسها وعدم إيداع ثمن السلعة في حساب العميل الوكيل. ب- أن تحصل من البائع على وثائق للتأكد من حقيقة البيع.] كتاب المعايير الشرعية الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ص١١٢. ومن المعلوم أن هذا التحايل محرم، وقد ذكر أهل العلم أدلة كثيرة على تحريم التحايل، منها قوله تعالى:{يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} سورة البقرة الآية٩، ولا شك أن التحايل نوع من المخادعة فهو محرم. وقد نعى الله سبحانه وتعالى تحيل اليهود لانتهاك المحرمات فقال تعالى:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} سورة الأعراف الآية ١٦٣. قال ابن كثير: [وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام. وقد قال الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة، رحمه الله حدثنا أحمد ... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" وهذا إسناد جيد، فإن أحمد بن محمد بن مسلم هذا ذكره الخطيب في تاريخه ووثقه، وباقي رجاله مشهورون ثقات، ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيراً.] تفسير ابن كثير٣/٤٩٣. والحديث المذكور قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية:[هذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي وغيره تارة ويحسنه تارة] إبطال الحيل ص ١١٢. ومما يدل على حرم التحايل ما ذكره الإمام الشوكاني: [عن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه) . رواه الجماعة. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قومٍ أكل شيء حرم عليهم ثمنه) رواه أحمد وأبو داود ... وحديث ابن عباس فيه دليل على إبطال الحيل والوسائل إلى المحرم، وأن كل ما حرمه الله على العباد فبيعه حرام لتحريم ثمنه، فلا يخرج من هذه الكلية إلا ما خصه دليل] نيل الأوطار٥/١٦٠-١٦٢. وقد وقفت على كلام للعلامة ابن القيم ينطبق على مسألتنا حيث قال: [ ... الوسيلة إلى الحرام حرام: فبانت بالكتاب والسنة والفطرة والمعقول. فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردةً وخنازير لما توسلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة، وسمَّى أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون مثل ذلك مخادعة، ... وقال أيوب السختياني:" يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل". والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين، سواء كانت لغوية، أو شرعية، والخداع حرام. وأيضاً فإن هذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة، وإضمار ما هو من أكبر الكبائر، فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها في صورة البيع الذي لم يقصد نقل الملك فيه أصلاً، وإنما قصده حقيقة الربا. وأيضاً فإن الطريق متى أفضت إلى الحرام، فإن الشريعة لا تأتي بإباحتها أصلاً، لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين، فلا يتصور أن يباح شيء ويحرم ما يفضي إله، بل لا بد من تحريمهما أو إباحتهما، والثاني باطلٌ قطعاً فيتعين الأول. وأيضاً فإن الشارع إنما حرم الربا، وجعله من الكبائر، وتوعد آكله بمحاربة الله ورسوله، لما فيه من أعظم الفساد والضرر، فكيف يتصور مع هذا أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من الحيل؟ فيالله العجب، أترى هذه الحيلة أزالت تلك المفسدة العظيمة، وقلبتها مصلحة، بعد أن كانت مفسدة؟ وأيضاً فإن الله سبحانه عاقب أهل الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين وكان مقصودهم منع حق الفقراء من التمر المتساقط وقت الحصاد، فلما قصدوا منع حقهم منعهم الله الثمرة جملة ... وأيضاً فقد روى ابن بطة وغيره بإسناد حسن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل " وإسناده مما يصححه الترمذي. وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها " و " جملوها " يعني أذابوها وخلطوها، وإنما فعلوا ذلك ليزول عنها اسم الشحم، ويحدث لها اسم آخر وهو الودك، وذلك لا يفيد الحل، فإن التحريم تابع للحقيقة وهي لم تتبدل بتبدل الاسم. وهذا الربا تحريمه تابع لمعناه وحقيقته فلا يزول بتبدل الاسم بصورة البيع كما لم يزل تحريم الشحم بتبديل الاسم بصورة الجمل والإذابة وهذا واضح بحمد الله. وأيضاً فإن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، إنما انتفعوا بثمنه، فيلزم من وقف مع صور العقود والألفاظ، دون مقاصدها وحقائقها أن يحرم ذلك، لأن الله تعالى لم ينص على تحريم الثمن وإنما حرم عليهم نفس الشحم ولما لعنهم على استحلالهم الثمن، وإن لم ينص على تحريمه دل على أن الواجب النظر إلى المقصود وإن اختلفت الوسائل إليه، وأن ذلك يوجب أن لا يقصد الانتفاع بالعين ولا ببدلها. ونظير هذا أن يقال: لا تقرب مال اليتيم فتبيعه وتأكل عوضه، وأن يقال: لا تشرب الخمر فتغير اسمه وتشربه، وأن يقال: لا تزن بهذه المرأة فتعقد عليها عقد إجارة وتقول إنما أستوفي منافعها وأمثال ذلك. قالوا: ولهذا الأصل - وهو تحريم الحيل المتضمنة إباحة ما حرم الله أو إسقاط ما أوجبه الله عليه أكثر من مائة دليل، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم " لعن المحلل والمحلل له " مع أنه أتى بصورة عقد النكاح الصحيح، لما كان مقصوده التحليل، لا حقيقة النكاح. وقد ثبت عن الصحابة أنهم سموه زانياً ولم ينظروا إلى صورة العقد] شرح ابن القيم على سنن أبي داود ٩/٢٤٣-٢٤٥.
وخلاصة الأمر أن ما قام به السائل هو تحايل على الشرع وهو من الأمور المحرمة بل يعد من كبائر الذنوب، والواجب على موظفي البنوك الإسلامية تنفيذ عقد المرابحة للآمر بالشراء وفق الشروط والمعايير المقررة شرعاً