للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٢٠٢ - الرؤيا وصلاة الاستخارة]

يقول السائل: صليت صلاة الاستخارة قبل النوم في خطبة فتاة معينة، ولكني لم أرَ شيئاً في المنام مما استخرت فيه، فهل استخارتي صحيحة أم لا؟ أفيدونا؟

الجواب: الاستخارة هي طلب خيرِ الأمرين من الله عز وجل لمن احتاج إلى أحدهما، كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ١٨/١٧٠. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: [ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين وثبت في أمره] الوابل الصيب١/١٥٧. وصلاة الاستخارة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، فقد روى الإمام البخاري بسنده عن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، إذا همَّ أحدُكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم يقول: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علَّام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجلة أمري وآجله- فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به قال ويسمي حاجته) . قال الإمام الشوكاني: [قوله: (في الأمور كلها) ، دليلٌ على العموم وأن المرء لا يحتقر أمراً لصغره وعدم الاهتمام به، فيترك الاستخارة فيه، فربَّ أمرٍ يستخف بأمره فيكون في الإقدام عليه ضررٌ عظيمٌ أو في تركه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ليسألَ أحدُكم ربَّه حتى في شِسْع نعله) - الشسع: بكسر الشين ثم بإسكان السين وهو أحد سيور النعل التي تشد إلى زمامها- قوله: (كما يعلمنا السورة من القرآن) فيه دليلٌ على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنه متأكدٌ مرغبٌ فيه، قال العراقي: ولم أجد من قال بوجوب الاستخارة مستدلاً بتشبيه ذلك بتعليم السورة من القرآن، كما استدل بعضهم على وجوب التشهد في الصلاة بقول ابن مسعود: كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن] نيل الأوطار ٣/٨٧. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سعادة ابن آدم استخارته الله عز وجل) رواه أحمد، وسنده حسن كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ١٨/١٧٠. وقال العلامة الألباني: [رواه أحمد وأبو يعلى والحاكم وزاد: ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله، ورواه الترمذي ولفظه: من سعادة ابن آدم كثرة استخارة الله تعالى ورضاه بما قضى الله له، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله تعالى وسخطه بما قضى الله له) ورواه البزار ولفظه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من سعادة المرء استخارته ربه ورضاه بما قضى ومن شقاء المرء تركه الاستخارة وسخطه بعد القضاء) وضعفه العلامة الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب١/١٠٦. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: (إذا أراد أحدكم أمراً فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علَّامُ الغيوب، اللهم إن كان كذا وكذا، للأمر الذي تريد خيراً لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسره لي وأعني عليه، وإن كان كذا وكذا، للذي يريد شراً لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري، فاصرفه عني وأقدر لي الخير أينما كان ولا قوة إلا بالله) رواه أبو يعلى الموصلي وقال الحافظ العراقي: وإسناده جيد كما في نيل الأوطار ٣/٨٧. وورد في خصوص الاستخارة في الزواج حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (اكتم الخِطبة، ثم توضأ فأحسن وضوءك ثم صلِّ ما كتب الله لك ثم احمد ربك ومجِّده ثم قل: اللهم إنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، فإن رأيت في فلانة - تسميها باسمها- خيراً لي في ديني ودنياي وآخرتي فاقدرها لي، وإن كان غيرها خيراً لي منها في ديني ودنياي وآخرتي فاقضِ لي ذلك) رواه ابن حبان في صحيحه وابن خزيمة وصححه ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات كلهم. وحسنه الشيخ شعيب الأرناؤوط. وقد ثبت في قصة زواج زينب بنت جحش برسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنس رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيدٍ فاذكرها عليَّ، قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخِّمر عجينها، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها ... إلخ) رواه مسلم، قال الإمام النووي: [وفيه استحباب صلاة الاستخارة لمن همَّ بأمرٍ سواء كان ذلك الأمر ظاهر الخير أم لا، وهو موافق لحديث جابر في صحيح البخاري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها ... ] شرح النووي على صحيح مسلم ٥/١٤٤. وأما كيفية صلاة الاستخارة فإذا أراد المسلم الاستخارة صلَّى ركعتين نافلةً لله تعالى، ويفضل أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} واستحب بعض أهل العلم أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} سورة القصص الآيات ٦٨-٧٠. ويقرأ في الركعة الثانية بعد الفاتحة قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} سورة الأحزاب الآية ٣٦. ولو قرأ غير ذلك جاز، وبعد أن يُسلِّم من صلاته يدعو بدعاء الاستخارة المذكور في الحديث سابقاً. ويستحب له أن يفتتح الدعاء بالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام ويختمه بذلك مستقبلاً القبلة رافعاً يديه، فإذا فعل المسلم ذلك، فإنه يفعل ما ينشرح صدره له، فإذا شعر المسلم أنه يميل إلى ذلك الشيء، فإنه يُقْدم عليه ويفعله. إذا تقرر هذا فلابد من بيان بعض أحكام الاستخارة، أولاً: تصح الاستخارة بعد صلاة، وتصح بالدعاء فقط بدون صلاة، قال الإمام النووي: [قال العلماء: تستحب الاستخارة بالصلاة والدعاء المذكور، وتكون الصلاة ركعتين من النافلة، والظاهر أنها تحصل بركعتين من السنن الرواتب وبتحية المسجد وغيرها من النوافل، ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قل يا أيها الكافرون} وفي الثانية: {قل هو الله أحد} ، ولو تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء. ويستحب افتتاح الدعاء المذكور وختمه بالحمد لله والصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الاستخارة مستحبةٌ في جميع الأمور كما صرح به نص هذا الحديث الصحيح - حديث جابر السابق- وإذا استخار مضى بعدها لما ينشرح له صدره] الأذكار ص ١٠١. ثانياً: تسن صلاة الاستخارة في الأمور المباحة، وليس عند التباس الخير أو خفاء وجه الصواب، ويدل على ذلك ما ورد في حديث جابر (في الأمور كلها) وهذا شامل للمباح، ولا تجوز الاستخارة فيما أمر الله به من الفروض أو النوافل، ولا تجوز أيضا في المحرمات ولا في المكروهات. ثالثاً: لا تشترط الرؤيا لصحة الاستخارة كما ورد في السؤال، بل تصح الاستخارة بدون رؤيا، والمطلوب ممن استخار أن يُقْدِم على الأمر الذي استخار فيه، وإن لم يرَ رؤيا ويفوض أمره إلى الله عز وجل، فإن رأى رؤيا صالحة فيما استخار فهو خير وبركة. وأما أن لا يقدم على العمل الذي استخار فيه حتى يرى رؤيا فلا. ويجب أن يعلم أن الرؤيا لا يبنى عليها أحكام شرعية أو دنيوية. رابعاً: يصح بل يستحب تكرار الاستخارة كما ذهب إليه جمهور الفقهاء لكون ذلك نوعاً من الإلحاح الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سأل، سأل ثلاثاً) رواه مسلم، ولأن صلاة الاستخارة وما يتبعها من دعاء، إنما شرعت طلباً للخيرة منه سبحانه، فإذا لم يحصل للمستخير انشراح وطمأنينة فيما استخار الله فيه، كرر ذلك حتى يحصل له الانشراح والطمأنينة، وقد صرح الشافعية بذلك ولم يحصروها بعدد.] الشبكة الإسلامية. خامساً: يفعل المستخير بعد الاستخارة ما ينشرح له صدره، قال الإمام النووي: [ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوىً قبل الاستخارة بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأساً وإلا فلا يكون مستخيراً لله، بل يكون مستخيراً لهواه، وقد يكون غير صادقٍ في طلب الخِيَرَة وفي التبرئ من العلم والقدرة وإثباتهما لله تعالى، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه] نيل الأوطار ٣/٨٧. سادسا: لا يستخير أحدٌ لأحدٍ، وإنما يستخير كلُ إنسانٍ لنفسه، وفي حديث جابر السابق قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا همَّ أحدُكم بالأمر) ، ولكن يجوز للشخص أن يدعو الله عز وجل أن يختار لابنه أو ابنته مثلاً. وخلاصة الأمر أن صلاة الاستخارة مستحبة في الأمور التي لا يدري العبدُ وجهَ الصواب فيها، أما ما هو معروفٌ خيرُه أو شره كالعبادات وصنائع المعروف والمعاصي والمنكرات فلا تجوز إلى الاستخارة فيها، إلا إذا أراد بيان خصوص الوقت كالحج مثلا في هذه السنة؛ لاحتمال عدو أو فتنة، والرفقة فيه، أيرافق فلانا أم لا؟ ولا تشترط الرؤيا للاستخارة، فالمسلم بعد أن يستخير يمضي فيما استخار الله فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>