يقول السائل: هل يجوز الاعتماد على الحسابات الفلكية في إثبات دخول شهر رمضان أفيدونا.
الجواب: يرى فريق من العلماء أنه لا يجوز الاعتماد على الحسابات الفلكية في إثبات الشهور القمرية مطلقاً وأن الأصل في ذلك هو الرؤية البصرية ?هذا الرأي منقول عن أكثر العلماء المتقدمين بل يكاد يكون مجمعاً عليه، فهو قول الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. انظر مجموعة رسائل ابن عابدين ١/٢٢٤ ? المنتقى ٢/٣٨ ? شرح الحطاب ٢/٣٨٧ ? المجموع ٦/٢٧٠ ? كشاف القناع ٢/٢٧٢) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية:[إنّا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب، أنه يرى أو لا يرى لا يجوز. والنصوص المستفيضة بذلك عن النبي كثيرة. وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ولا خلاف حديث إلا أن بعض المتأخرين من المتفقه الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم] مجمو الفتاوى ٢٥/١٣٢. وأهم الأدلة التي اعتمدوا عليها ما رواه مسلم في صحيحه: قال رسول الله: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً) وفي لفظ عند مسلم أيضاً قال: قال أبو القاسم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فأكملوا العدة) وفي لفظ عند النسائي: (فان غم عليكم فاكملوا العدة ثلاثين) وفي لفظ عنده أيضاً: (فاقدروا له) قال النووي: (المراد رؤية بعض المسلمين ولا يشترط رؤية كل انسان ? بل يكفي جميع الناس رؤية عدلين وكذا عدل على الأصح ? هذا في الصوم) شرح النووي على صحيح مسلم ٣/١٥٥- ١٥٦. ومنها ما رواه البخاري في صحيحه أن رسول الله قال إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له) وفي لفظ لمسلم (أن رسول الله ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: (الشهر هكذا وهكذا وهكذا، ثم عقد إبهامه في الثالثة، فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين) . وفي لفظ:(فاقدروا له) ومعنى قوله (فاقدروا له) عندهم ? أي إتمام الشهر ثلاثين يوماً ? لأن التقدير يكون بمعنى التمام ويؤيده قوله تعالى (قد جعل الله لكل شيء قدراً) سورة الطلاق الآية ٣ أي أن الله جعل لكل شيء تماماً. انظر فتح الباري ٤/١٢٠ ? شرح النووي على صحيح مسلم ٣/١٥٥ ? المجموع ٦/٢٧٠)
ويرى فريق آخر من العلماء جواز الاستئناس بالحسابات الفلكية في إثبات الشهور القمرية بشروط معينة نقل هذا القول عن بعض العلماء كابن سريج الفقيه الشافعي انظر المجموع ٦/٢٧٩) وهو قول تقي الدين السبكي حيث قال:[فأنا أختار في ذلك قول ابن سريج ومن وافقه في الجواز خاصة لا في الوجوب وشرط اختياري للجواز حيث ينكشف من علم الحساب انكشافاً جلياً إمكانه ولا يحصل ذلك إلا لماهر في الصنعة والعلم](العلم المنشور ? ٢٢) . ومن القائلين بالجواز من علماء العصر الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي حيث قال:[وأقول مما يؤيد العمل بالحساب الصحيح أن أهل الشرع من الفقهاء وغيرهم يرجعون في كل حادثة إلى أهل الخبرة بها وذوي البصارة فيها فإنهم يأخذون بقول أهل اللغة في معاني ألفاظ القرآن والحديث وبقول الطبيب في إفطار شهر رمضان وغير ذلك كثير فما الذي يمنع من بناء إكمال شعبان ورمضان وغيرهما من الأشهر على الحساب؟ والرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة العارفين به إذا أشكل علينا الأمر في ذلك] .
ومن القائلين بالجواز أيضاً الشيخ أحمد محمد شاكر كما في رسالته (أوائل الشهور العربية)(فتاوى معاصرة ٢/٢١٦ فما بعدها) . ومنهم الشيخ مصطفى الزرقا ? حيث فصل قوله في كتابه العقل والفقه في فهم الحديث النبوي ? ٨٠ فما بعدها ? وفي فتاويه أيضاً ? ١٥٧) . ومن القائلين بالجواز الشيخ يوسف القرضاوي حيث قال:[وقد كنت ناديت منذ سنوات بأن نأخذ بالحساب الفلكي القطعي – على الأقل – في النفي لا في الإثبات تقليلاً للاختلاف الشاسع الذي يحدث كل سنة في بدء الصيام وفي عيد الفطر إلى حد يصل إلى ثلاثة أيام بين بعض البلاد الإسلامية وبعض ? ومعنى الأخذ بالحساب في النفي أن نظل على إثبات الهلال بالرؤية وفقاً لرأي الأكثرين من أهل الفقه في عصرنا ? ولكن إذا نفى الحساب إمكانية الرؤية وقال: إنها غير ممكنة لأن الهلال لم يولد أصلاً في أي مكان من العالم الإسلامي كان الواجب ألا تقبل شهادة الشهود بحال لأن الواقع الذي أثبته العلم الرياضي القطعي يكذبهم بل في هذه الحالة لا يطلب ترائي الهلال من الناس أصلاً ولا تفتح المحاكم الشرعية ولا دور الفتوى أو الشؤون الدينية أبوابها لمن يريد أن يدلى بشهادة عن رؤية الهلال] فتاوى معاصرة ٢/٢٢١. وأهم ما استدل به لهذا القول ما يلي: إن رواية (فاقدروا له) معناها: قدروه بحساب المنازل وأنه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم وأن قوله (فأكملوا العدة) خطاب للعامة. (فتح الباري ٤/١٢٢ ? ? شرح النووي على صحيح مسلم ٣/١٥٥) حديث: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) فالأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللاً بعلة منصوصة وهي إن الأمة لا تكتب ولا تحسب والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً فإذا وصلت الأمة إلى حال في معرفة هذا العلم باليقين في حساب أوائل الشهور وأمكن أن يثقوا به ثقتهم بالرؤية أو أقوى صار لهم الأخذ بالحساب في إثبات أوائل الشهور. ليست حقيقة الرؤية شرطاً في اللزوم لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بالحساب بإكمال العدة أو بالاجتهاد بالأمارات أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه] ((مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد ٣ جزء ٢/٨٢٩) . وقد بين العلامة مصطفى الزرقا رأيه في هذه المسألة وما اعتمد عليه بقوله:[أن النظر إلى جميع الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في هذا الموضوع وربط بعضها ببعض وكلها واردة في الصوم والإفطار يبرز العلة السببية في أمر الرسول بأن يعتمد المسلمون في بداية الشهر ونهايته رؤية الهلال بالبصر لبداية شهر الصوم ونهايته ويبين أن العلة هي كونهم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب أي ليس لديهم علم وحساب مضبوط يعرفون به متى يبدأ الشهر ومتى ينتهي ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين يوماً وتارة ثلاثين.
وهذا يدل بمفهومه أنه لو توافر العلم بالنظام الفلكي المحكم الذي أقامه الله تعالى بصورة لا تختلف ولا تتخلف وأصبح هذا العلم يوصلنا إلى معرفة يقينية بمواعيد ميلاد الهلال في كل شهر وفي أي وقت بعد ولادته تمكن رؤيته بالعين الباصرة السليمة إذ انتفت العوارض الجوية التي قد تحجب الرؤية فحينئذ لا يوجد مانع شرعي من اعتماد هذا الحساب والخروج بالمسلمين من مشكلة إثبات الهلال ومن الفوضى التي أصبحت مخجلة بل مذهلة حيث يبلغ فرق الإثبات للصوم بين مختلف الأقطار الإسلامية ثلاثة أيام كما يحصل في بعض الأعوام!!. كما إن الفقهاء الأوائل واجهوا مشكلة خطيرة في عصرهم وهي الاختلاط والارتباط الوثيق إذ ذاك في الماضي بين العرافة والتنجيم والكهانة والسحر من جهة وبين حساب النجوم بمعنى علم الفلك من جهة أخرى. فيبدو أن كثيراً من أهل حساب النجوم كانوا أيضاً يشتغلون بتلك الأمور الباطلة التي نهت عنها الشريعة أشد النهي فكان للقول باعتماد الحساب في الأهلة مفسدتان: الأولى: أنه ظني من باب الحدس والتخمين مبني على طريقة التعديل التي بينا معناها فلا يعقل أن تترك به الرؤية بالعين الباصرة رغم ما قد يعتريها من عوارض واشتباهات
الثانية: وهي الأشد خطورة والأدهى هي انسياق الناس إلى التعويل على أولئك المنجمين والعرافين الذين يحترفون الضحك على عقول الناس بأكاذيبهم وترهاتهم وشعوذاتهم. أما اليوم في عصرنا هذا الذي انفصل فيه منذ زمن طويل علم الفلك بمعناه الصحيح عن التنجيم بمعناه العرفي من الشعوذة والكهانة واستطلاع الحظوظ من حركات النجوم وأصبح علم الفلك قائماً على أسس من الرصد بالمراصد الحديثة والأجهزة العملاقة التي تكتشف حركات الكواكب من مسافات السنين الضوئية وبالحسابات الدقيقة المتيقنة التي تحدد تلك الحركات بجزء من مئات أو آلاف الأجزاء من الثانية وأقيمت بناء عليه في الفضاء حول الأرض محطات ثابتة وتستقبل مركبات تدور حول الأرض ... إلخ ... فهل يمكن أن يشك بعد ذلك بصحته ويقين حساباته وأن يقاس على ما كان عليه من البساطة والظنية والتعديل في الماضي زمن أسلافنا رحمهم الله] (فتاوى الزرقا ? ١٦٦-١٦٩) .
ولكن مع هذا أقول إنه بعد التقدم العلمي الهائل لعلم الفلك ولوضوح الفصل بين علم الفلك وبين التنجيم لا بد من الاستئناس بعلم الفلك في هذه القضية المهمة، وفق الشروط والأحوال التي أشار إليها ألفقهاء قديما وحديثا. وأهمها تعذر رؤية الهلال ? وأن يكون أهل الحساب ممن يؤمن معهم الخطأ ويحصل العلم أو الظن القوي من اتفاقهم على عدم الخطأ في الحساب. وخاصة أنه قد حدثت عوامل كثيرة تؤثر في إثبات الرؤية في العصر الحاضر ? مثل: عدم صفاء الجو بسبب التلوث الصناعي بالغازات الهائلة من الصناعات ? والتلوث الضوئي ? وبخار الماء ? والأقمار الصناعية التي تملأ ألأجواء ليل نهار ? إضافة إلى عوامل أخرى قد تؤثر على الرؤية منها: الوهم ? وحدة البصر ? وعمر القمر (بعد التولد ولحظة الرؤية)
وخلاصة الأمر في هذه المسألة هو وجوب الاعتماد على الرؤية البصرية لإثبات الشهور القمرية وهذا ما نطقت به النصوص الشرعية ويستعان (يستأنس) بالحساب الفلكي والمراصد مراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية.