يقول السائل: هل يجوز لي الحج قبل أن أسدد ديوني وهي كثيرة علماً أن أصحاب الديون لا يمانعون في حجي، أفيدونا؟
الجواب: ينبغي أن يُعلم أولاً أن أمر الدَّيون عظيم، ولا ينبغي للإنسان أن يدّان إلا إذا احتاج للمال فعلاً، والدين قد يكون سبباً في حبس المؤمن وكذا الشهيد عن الجنة، لما ثبت في الحديث أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر يكفر الله عني خطاياي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. فلمّا أدبر ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فنودي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ فأعاد عليه قوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إلا الدَّين كذلك قال جبريل) رواه مسلم. وثبت في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(يُغفر للشهيد كلُ ذنبٍ إلا الدَّين) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا الدَّين) ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى] شرح صحيح مسلم للنووي ٥/٢٨. وقال التوربشتي:[أراد بالدَّين هنا ما يتعلق بذمته من حقوق المسلمين، إذ ليس الدائن أحق بالوعيد والمطالبة منه من الجاني والغاصب والخائن والسارق] تحفة الأحوذي ٥/٣٠٢. وورد في حديث آخر عن محمد بن جحش أنه قال:(كنا جلوساً في موضع الجنائز مع رسول الله فرفع رأسه في السماء ثم وضع راحته على جبهته فقال: سبحان الله ماذا أنزل الله من التشديد؟ فسكتنا وفرِقنا. فلما كان الغد سألته: يا رسول الله ما هذا التشديد الذي نزل؟ قال: في الدَّين والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يُقضى عنه) رواه النسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه العلامة الألباني في أحكام الجنائز ص ١٠٧. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من أخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضى عنه) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الإمام النووي وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ٢/٥٣. وعلى من استدان ديناً أن ينوي سداده، حتى لو لم يكن لديه ما يقضيه، فإن مات بهذه النية، فإن الله يسدد عنه كما ورد في الحديث عن ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ما من مسلم يدَّان ديناً يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا) رواه ابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ٢/٥١. وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من دان بدين في نفسه وفاءه ومات تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء ومن دان بدين وليس في نفسه وفاءه ومات اقتص الله لغريمه منه يوم القيامة) رواه الطبراني. وعن ابن عمر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(الدين دينان، فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه، ومن مات ولا ينوي قضاءه فذلك الذي يؤخذ من حسناته ليس يومئذ دينار ولا درهم) رواه الطبراني في الكبير وصححه العلامة الألباني في أحكام الجنائز ص ٥. وفي هذه الأحاديث تحذير شديد من التساهل في أمر الديون. إذا تقرر هذا فإن الحج واجب على المستطيع، لقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} سورة آل عمران الآية ٩٧. وأصح أقوال العلماء في الاستطاعة ما قاله أبو جعفر الطبري: [وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال بقول ابن الزبير وعطاء: إن ذلك على قدر الطاقة. لأن"السبيل" في كلام العرب: الطريق، فمن كان واجداً طريقاً إلى الحج لا مانع له منه من زمانةٍ، أو عجزٍ، أو عدوٍ، أو قلة ماء في طريقه، أو زادٍ، أو ضعفٍ عن المشي، فعليه فرض الحج، لا يجزيه إلا أداؤه. فإن لم يكن واجداً سبيلاً -أعني بذلك: فإن لم يكن مطيقاً الحج، بتعذر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه- فهو ممن لا يجد إليه طريقاً ولا يستطيعه، لأن الاستطاعة إلى ذلك، هو القدرة عليه. ومن كان عاجزاً عنه ببعض الأسباب التي ذكرنا أو بغير ذلك، فهو غير مطيق ولا مستطيع إليه السبيل. وإنما قلنا: هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها، لأن الله عز وجل لم يخصص، إذ ألزم الناس فرض الحج، بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه. فذلك على كل مستطيع إليه سبيلاً بعموم الآية. فأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بأنه:"الزاد والراحلة"، فإنها أخبار: في أسانيدها نظر، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدين.] تفسير الطبري ٦/٤٥. ويضاف إلى ما قاله الإمام الطبري في مفهوم الاستطاعة أن يكون عند مريد الحج نفقة تكفي لمن تلزمه نفقته حتى يرجع من حجه، وتوفر المحرم أو الزوج في حق المرأة على الصحيح من أقوال العلماء، وهنالك تساهل واضح في بلادنا في سفر المرأة للحج أو للعمرة بدون زوج أو محرم، فتسافر مع مجموعة نساء وهي الصحبة المأمونة كما زعموا، وهذا قول ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعول عليه، وقد ثبتت أدلة كثيرة تدل على حرمة سفر المرأة إلا مع زوجها أو ذي محرم منها، والمحرم هو: من لا يحل له نكاحها من الأقارب كالأب والابن والأخ والعم ومن يجري مجراهم كما ذكره ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث ١/٣٧٣. ومن العلماء من يرى أن الزوج يدخل في معنى المحرم، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[والمحرم زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح كأبيها وابنها وأخيها من نسب أو رضاع] المغني ٣/٢٣٠. ومن النصوص الواردة في ذلك: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم:(لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة) رواه البخاري. والمقصود بالحرمة المحرم كما في رواية مسلم:(لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم، فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج. فقال صلى الله عليه وسلم: اخرج معها) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت أربعاً من النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبنني قال: لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم، ولا صوم في يومين الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي هذا) رواه البخاري ومسلم، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها) رواه مسلم. ولا نملك أمام هذه النصوص إلا أن نقول {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة الحشر الآية ٧. وبناءً على ما سبق فإن الأصل أن يقضي المسلم ديونه قبل الحج، ومع ذلك فهنالك عدة ضوابط تضبط أثر الديون في وجوب الحج وهي: أولاً: أن تكون الديون حالة، وليس عند المدين ما يكفي لقضاء ديونه ويكفي لحجه أيضاً، فهذا مطلوب منه أن يسدد ديونه قبل الحج، وحقوق العباد مقدمة على حق الله تعالى. ثانياً: الديون المقسطة على أقساط طويلة المدى لا تمنع من الحج، كمن اشترى داراً بثمنٍ مقسطٍ على عشر سنوات، يؤدي في كل شهرٍ قسطاً. ثالثاً: إذا تبرع أحدٌ للمدين بالحج وتكفَّل بنفقاته، فلا حرج عليه أن يحج وإن كان مديناً. رابعاً: إذا استأذن المدين من أصحاب الديون فأذنوا له بالحج فلا بأس أن يحج، ومعنى إذنهم أنهم قبلوا أن يؤخر سداد الديون، مع أن ذمته تبقى مشغولة بالديون، فإذا مات والحالة هذه فهو على خطر عظيم كما سبق في الأحاديث التي ذكرتها أولاً.
وخلاصة الأمر أن المدين وديونه حالَّة فهذا غير مستطيع ويلزمه قضاء ديونه، وأما إذا كانت الديون مؤجلة فيجوز له أن يحج، مع أن إبراء الذمة أولى وأفضل.