للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٠ - المسح على الجوربين ثابت شرعا]

يقول السائل: إنه سأل إمام المسجد عن المسح على الجوربين عند الوضوء فأجابه بأنه لا يجوز المسح على الجوارب التي اعتاد الناس لبسها ولا بد من غسل الرجلين، فما قولكم في ذلك؟

الجواب: بعض الناس يحجرون واسعاً على الأمة ويشددون عليهم ويظنون أن في هذا التشدد التزاماً تاماً بالدين.

يقول الدكتور يوسف القرضاوي: [إن جمهور الناس في عصرنا أحوج ما يكونون إلى التيسير والرفق رعايةً لظروفهم وما غلب على أكثرهم من رقة الدين وضعف اليقين وما ابتلوا به من كثرة المغريات بالإثم والمعوقات عن الخير ولهذا كان على أهل الفقه والدعوة أن ييسروا عليهم في مسائل الفروع على حين لا يتساهلون في قضايا الأصول ومن كان يعمل بالأحوط فهذا حسن إذا كان ذلك لنفسه ولأولي العزم من المؤمنين أما من كان يفتي الناس عامة أو يكتب للجماهير كافة فينبغي أن يكون شعاره التيسير لا التعسير والتبشير لا التنفير اتباعاً لوصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن فقال: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا) وقال: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) .

وهذا يجعل الفقيه يستحضر الرخص فإن الله يحب أن تؤتى رخصه ويقدر الأعذار والضرورات ويبحث عن التيسير ورفع الحرج والتخفيف عن العامة (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) ... ويسرني أن أذكر هنا كلمة لإمام كبير انعقدت له الإمامة في ثلاثة مجالات في الفقه حيث كان له مذهب وأتباع لمدة من الزمن ثم انقرضوا، وفي الحديث والرواية، حيث كان يسمى أمير المؤمنين في الحديث وفي الورع والزهد حيث عد من أئمة التقوى وأعني به الإمام سفيان بن سعيد الثوري فقد روى عنه الإمام النووي في مقدمات المجموع هذه الكلمة المضيئة: إنما الفقه الرخصة من ثقة أما التشديد فيحسنه كل أحد!!] بيع المرابحة للآمر بالشراء ص ٢٢-٢٣.

ومسألة المسح على الجوربين فيها تيسير وتسهيل على الناس وخاصة في أيام الشتاء الباردة حيث إن كثيراً من الناس وخاصة كبار السن يجدون صعوبة في غسل أرجلهم عند كل وضوء فيمسحون على جواربهم ولا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى، والمسح على الجوربين ثابت بالسنة وبه عمل الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون ولا ينكره إلا جاهل لم يشم رائحة العلم الشرعي.

وهذه بعض الأدلة والشواهد الشرعية على جواز المسح على الجوربين:

١. قال أبو داود صاحب السنن باب المسح على الجوربين ثم روى بإسناده عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين) رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. ورواه ابن ماجة وابن حبان والبيهقي وابن خزيمة وابن أبي شيبة وغيرهم وصححه ابن حبان.

قال العلامة أحمد محمد شاكر: [والحديث صحيح وإسناده كلهم ثقات] مقدمة رسالة المسح على الجوربين للقاسمي ص ٧، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ١/٣٣.

٢. وعن ثوبان رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ الألباني والشيخ شعيب الأرناؤوط، وقال الشيخ أحمد محمد شاكر: [حديث متصل صحيح الإسناد] مقدمة رسالة المسح على الجوربين ص ٦. وانظر صحيح ابن حبان ٤/١٦٧، صحيح سنن أبي داود ١/٣٠.

٣. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم: (توضأ ومسح على الجوربين والنعلين) رواه ابن ماجة والطحاوي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجه ١/٩١.

وقد ثبت المسح على الجوربين عن جماعة كبيرة من الصحابة رضي الله عنهم، قال الإمام النووي: [وحكى ابن المنذر إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من الصحابة علي وابن مسعود وابن عمر وأنس وعمار بن ياسر وبلال والبراء وأبي أمامة وسهل بن سعد] المجموع ١/٤٩٩.

وقال العلامة ابن القيم: [قال ابن المنذر روي المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم علي وعمار وأبي مسعود الأنصاري وأنس وابن عمر والبراء وبلال وعبد الله ابن أبي أوفى وسهل بن سعد. وزاد أبو داود - صاحب السنن - أبو أمامة وعمرو بن حريث وعمر وابن عباس فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً والعمدة في الجواز على هؤلاء رضي الله عنهم ... وقد نص أحمد على جواز المسح على الجوربين وعلل رواية أبي قيس. وهذا من إنصافه وعدله رحمه الله وإنما عمدته هؤلاء الصحابة وصريح القياس فإنه لا يظهر بين الجوربين والخفين فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه ... ولا نعرف في الصحابة مخالفاً لمن سمينا] تهذيب سنن أبي داود ١/١٨٧-١٨٩.

ومن الروايات المنقولة عن الصحابة في المسح على الجوربين:

١. ما رواه الدولابي في الكنى والأسماء من طريق أحمد بن شعيب عن عمرو بن علي أخبرني سهل بن زياد أبو زياد الطحان حدثنا الأزرق بن قيس قال: [رأيت أنس بن مالك أحدث فغسل وجهه ويديه ومسح على جوربين من صوف، فقلت: أتمسح عليهما فقال: إنهما خفان ولكن من صوف] .

قال العلامة أحمد شاكر: [وهذا إسناد صحيح ... وهذا الحديث موقوف على أنس من فعله وقوله ولكن وجه الحجة فيه أنه لم يكتف بالفعل بل صرح بأن الجوربين خفان ولكنهما من صوف) مقدمة رسالة المسح على الجوربين ص١٣.

٢. روى عبد الرزاق بإسناده عن كعب بن عبد الله قال: [رأيت علياً بال فمسح على جوربيه ونعليه ثم قام يصلي] مصنف عبد الرزاق ١/١٩٩، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه ١/١٨٨.

٣. وروى عبد الرزاق بإسناده عن خالد بن سعد قال: [كان أبو مسعود الأنصاري يمسح على جوربين له من شعر ونعليه] مصنف عبد الرزاق ١/١٩٩، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف ١/١٨٨.

٤. وروى عبد الرزاق بإسناده عن ابن عمر أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه. مصنف عبد الرزاق ١/١٩٩.

٥. وروى عبد الرزاق عن أبي مسعود أنه كان يمسح على الجوربين والنعلين. مصنف عبد الرزاق ١/٢٠٠.

٦. وروى عبد الرزاق بإسناده عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال: [رأيت البراء بن عازب يمسح على جوربيه ونعليه] مصنف عبد الرزاق ١/٢٠٠، ورواه أبن أبي شيبة في مصنفه ١/١٨٩.

٧. وروى عبد الرزاق بإسناده عن يحيى البكاء قال: سمعت ابن عمر يقول: المسح على الجوربين كالمسح على الخفين. مصنف عبد الرزاق ١/٢٠١.

٨. وروى ابن أبي شيبة بإسناده أن عمر توضأ يوم جمعة ومسح على جوربيه ونعليه. مصنف ابن أبي شيبة ١/١٨٨.

٩. وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة بإسناديهما عن أنس بن مالك: [أنه كان يمسح على الجوربين قال: نعم، يمسح عليهما مثل الخفين] مصنف عبد الرزاق ١/٢٠٠، مصنف ابن أبي شيبة ١/١٨٨.

١٠. وورى ابن أبي شيبة بإسناده عن أبي غالب قال: رأيت أبا أمامة يمسح على الجوربين. مصنف ابن أبي شيبة ١/١٨٨.

وهنالك روايات أخرى كثيرة في المصنفين المذكورين والمحلى ١/٣٢٣ راجعها إن شئت.

وقد قال بالمسح على الجوربين كبار الفقهاء من التابعين والأئمة المجتهدين وغيرهم كسعيد بن المسيب وعطاء والحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والأعمش والثوري والحسن بن صالح وعبد الله بن المبارك وإسحاق وأبي ثور وهو قول الإمام أحمد وأهل الظاهر وأبي يوسف ومحمد وزفر أصحاب أبي حنيفة، ورجع إليه أبو حنيفة في آخر أيامه وهو قول الإمام الشافعي بشروط، ومالك في أحد القولين عنه كما في الاستذكار لابن عبد البر ٢/٢٥٣..

وقد ذكر الإمام الكاساني: [أن أبا حنيفة كان يقول بعدم جواز المسح على الجوربين وكان أبو يوسف ومحمد يخالفانه في ذلك ويريان جواز المسح وأن الإمام رجع عن قوله إلى قولهما في آخر عمره وذلك أنه مسح على جوربيه في مرضه ثم قال لعواده: فعلت ما كنت أمنع الناس عنه، فاستدلوا به على رجوعه] بدائع الصنائع ١/٨٣.

والقول بالمسح على الجوربين هو الذي عليه الفتوى عند الحنفية كما ذكره صاحب الهداية وشارحها ابن الهمام شرح فتح القدير١/١٣٩.

وأما ما ذكره بعض الفقهاء من شروط للجوربين الذين يمسح عليهما بأن يكونا منعلين أو مجلدين أو ثخينين وغير ذلك من الشروط فلم يقم دليل صحيح على اعتبار هذه الشروط ولم يرد دليل على تقييد الجوربين بهذه الشروط.

قال ابن حزم: [اشتراط التجليد خطأ لا معنى له لأنه لم يأت به قرآن ولا سنة ولا قياس صاحب. والمنع من المسح على الجوربين خطأ لأنه خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلاف الآثار ولم يخص عليه الصلاة والسلام في الأخبار التي ذكرنا خفين من غيرهما] المحلى ١/٣٢٤.

وعقب الشيخ القاسمي على كلام ابن حزم المذكور بقوله: [يؤيده أن كل المروي في المسح على الجوربين مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه قيد ولا شرط ولا يفهم ذلك لا من منطوقه ولا من مفهومه ولا من إشارته وجلي أن النصوص تحمل على عمومها إلى ورود مخصص وعلى إطلاقها حتى يأتي ما يقيدها ولم يأت هنا مخصص ولا مقيد لا في حديث ولا أثر. هذا أولاً وثانياً قدمنا أن الإمام أبا داود روى في سننه عن عدة من الصحابة المسح على الجوربين مطلقاً غير مقيد كما قدمناه وهكذا كل من نقل عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين المسح على الجوربين لم يروه بقيد ولا شرط مما يدل على أن تقييده لم يكن معروفاً في عصورهم التي هي خير القرون، وثالثاً الجورب بين بنفسه في اللغة والعرف كما نقلنا معناه عن أئمة اللغة والفقه ولم يشرط أحد في مفهومه ومسماه نعلاً ولا ثخانة وإذا كان موضوعه في الفقه واللغة مطلقاً فيصدق بالجورب الرقيق والغليظ والمنعل وغيره] رسالة المسح على الجوربين ٧٠ - ٧١.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [نعم يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما سواء أكانت مجلدة أو لم تكن في أصح قولي العلماء ففي السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه وهذا الحديث إذا لم يثبت فالقياس يقتضي ذلك فإن الفرق بين الجوربين والنعلين إنما هو كون هذا من صوف وهذا من جلود ومعلوم أن مثل هذا الفرق غير مؤثر في الشريعة فلا فرق بين أن يكون جلوداً أو قطناً أو كتاناً أو صوفاً كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه ومحظوره ومباحه وغايته أن الجلد أبقى من الصوف فهذا لا تأثير له كما لا تأثير لكون الجلد قوياً بل يجوز المسح على ما يبقى وما لا يبقى. وأيضاً فمن المعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء. ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقاً بين المتماثلين، وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة، وما أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله.

ومن فرق بكون هذا ينفذ الماء منه وهذا لا ينفذ منه: فقد ذكر فرقاً طردياً عديم التأثير] مجموع الفتاوى ٢١/٢١٤.

وسئل الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين عما اشترطه بعض العلماء من كون الجورب والخف ساترين لمحل الفرض فأجاب بقوله: [هذا الشرط ليس بصحيح لأنه لا دليل عليه فإن اسم الخف أو الجورب ما دام باقياً فإنه يجوز المسح عليه لأن السنة جاءت بالمسح على الخف على وجه مطلق وما أطلقه الشارع فإنه ليس لأحد أن يقيده إلا إذا كان لديه نص من الشارع أو إجماع أو قياس صحيح وبناءً على ذلك فإنه يجوز المسح على الخف المخرق ويجوز المسح على الخف الخفيف لأن كثيراً من الصحابة كانوا فقراء وغالب الفقراء لا تخلو خفافهم من خروق فإذا كان هذا غالباً أو كثيراً في قوم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينبه عليه الرسول صلى الله عليه وسلم دل ذلك على أنه ليس بشرط، ولأنه ليس المقصود من الخف ستر البشرة، وإنما المقصود من الخف أن يكون مدفئاً للرجل ونافعاً لها، وإنما أجيز المسح على الخف لأن نزعه يشق وهذا لا فرق فيه بين الجورب الخفيف والجورب الثقيل ولا بين الجورب المخرق والجورب السليم والمهم أنه ما دام اسم الخف باقياً فإن المسح عليه جائز لما سبق من الدليل] مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين ص ١٦٥-١٦٦.

وخلاصة الأمر أن المسح على الجوربين جائز ولا حرج فيه أبداً، وأقول للقراء امسحوا على جواربكم مطمئنين.

?????

<<  <  ج: ص:  >  >>