[٤ - تعجيل العقوبة في الدنيا لبعض المعاصي والذنوب]
يقول السائل: هلاّ وضحتم لنا مسألة تعجيل العقوبة للمذنب في الدنيا، أفيدونا؟
الجواب: اقتضت حكمة الله عز وجل أن يعجل عقوبة بعض الذنوب في الدنيا، وقد يكون ذلك من باب الاعتبار والاتعاظ بما يصيب العصاة كما هو الحال في الظالمين وقاطعي الأرحام وحالفي الأيمان الكاذبة، وقد يكون تعجيل العقوبة من باب إرادة الخير بالمؤمن لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وتفصيل ذلك كما يلي: إن تعجيل العقوبة في الدنيا ثابت في مجموعة من الأحاديث، فمن ذلك ما ورد في تعجيل عقوبة المستهزئ بالسنة النبوية فقد ورد في الحديث عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال صلى الله عليه وسلم: (كل بيمينك) قال: لا أستطيع. قال صلى الله عليه وسلم: (لا استطعت) ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه- فمه -، أي شلت يده. رواه مسلم. فهذا الرجل لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالأكل بيمنه لم يعجبه ذلك تكبراً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليه فشلت يده.
ومن ذلك أيضاً ما ورد عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يتبختر يمشى في برديه قد أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) رواه مسلم.
ومن الذنوب التي قد يعجل الله عقوبتها في الدنيا الظلم والبغي وقطيعة الرحم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أُطيعَ الله فيه، أعجل ثواباً من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع) رواه البيهقي وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة ٢/٧٠٦، وبلاقع، جمع بلقع وبلقعة، وهي الأرض القفر التي لا شجر فيها، ذكره الزبيدي ونقل عن بعض العلماء، أن معنى الحديث [أي يفتقر الحالف ويذهب ما في بيته من المال، أو يفرق الله شمله ويغيّر ما أولاه من نعمة] تاج العروس ١١/٣٠. وفي رواية أخرى: (إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، وإن أهل البيت ليكونون فجاراً، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا وصلوا أرحامهم، وإن أعجل المعصية، عقوبة البغي والخيانة، واليمين الغموس يذهب المال ويثقل في الرحم، ويذر الديار بلاقع) رواه الطبراني في الأوسط وقال العلامة اللباني: إنه صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين الفاجرة تذهب المال) رواه البزار بسند صحيح، كما قال ابن حجر الهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر ٢/٤٠٤. وجاء في الحديث أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
ومن الذنوب التي قد يعجل الله عقوبتها في الدنيا حلف اليمين الكاذب ليستحل دماء الناس وأموالهم، كما ثبت في صحيح البخاري في الحادثتين التاليتين: الأولى: روى الإمام البخاري بسنده، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن أول قسامة كانت في الجاهلية، لفينا بني هاشم، كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش، من فخِذٍ أخرى، فانطلق معه في إبله فمر به رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل فأعطاه عقالاً، فشد به عروة جوالقه، فلما نزلوا، عقلت الإبل إلا بعيراً واحداً، فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟ قال: ليس له عقال، قال: فأين عقاله؟ قال: فحذفه بعصاً كان فيها أجله، فمر رجل به من أهل اليمن فقال: أتشهد الموسم؟ قال: ما أشهد، وربما شهدته، قال: هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم، قال: فكتب، إذا أنت شهدت الموسم فناد يا آل قريش، فإذا أجابوك فناد يا آل بني هاشم، فإن أجابوك، فسل عن أبي طالب، فأخبره أن فلاناً قتلني في عقال، ومات المستأجَر، فلما قدم الذي استأجره، أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال مرض فأحسنت القيام عليه، فوليت دفنه، قال: قد كان أهل ذاك منك فمكث حيناً، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه، وافى الموسم فقال: يا آل قريش، قالوا هذه قريش، قال يا بني هاشم، قالوا: هذه بنو هاشم، قال: من أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب، قال: أمرني فلان أن أبلغك رسالة، أن فلاناً قتله في عقال، فأتاه أبو طالب فقال له: إختر منا إحدى ثلاث، إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت، حلف خمسون من قومك، أنك لم تقتله، فإن أبيت، قتلناك به، فأتى قومه، فقالوا نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له، فقالت: يا أبا طالب، أحب أن تجيز أبني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان، ففعل، فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلاً أن يحلفوا مكان مئة من الإبل، يصيب كل رجل بعيران، هذان بعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون، فحلفوا، قال ابن عباس: فالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية وأربعين عين تطرف) .
الثانية: روى الإمام البخاري بسنده عن أبي قلابة حديثاً طويلاً وفيه: (وقد كانت هذيل خلعوا خليعاً لهم في الجاهلية، فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء، فانتبه له رجل منهم، فحذفه بالسيف فقتله، فجاءت هذيل فأخذوا اليماني، فرفعوه إلى عمر بالموسم وقالوا: قتل صاحبنا، فقال: إنهم قد خلعوه، فقال: يقسم خمسون من هذيل ما خلعوه، قال: فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلاً، وقدم رجل منهم من الشام، فسألوه أن يقسم، فافتدى يمينه منهم بألف درهم، فأدخلوا مكانه رجلاً آخر، فدفعه إلى أخي المقتول، فقرنت يده بيده، قالوا فانطلقنا والخمسون الذين أقسموا حتى إذا كانوا بنخلة أخذتهم السماء -أي المطر- فدخلوا في غار في الجبل، فانهجم الغار على الخمسين الذين أقسموا، فماتوا جميعاً وأفلت القرينان وأتبعهما حجر فكسر رجل أخي المقتول فعاش حولاً ثم مات) .
ومن الذنوب التي يخشى أن يعجل الله عز وجل عقوبتها في الدنيا سب العلماء وأكل لحومهم كما قال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله: [اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ] .
وأما كون تعجيل العقوبة في الدنيا من باب الخير للمؤمن فقد ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة) رواه الترمذي وقال العلامة الألباني حسن صحيح. وهذا التعجيل رحمة بالمؤمن لأن عذاب الآخرة أشد وأبقى كما قال تعالى: {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} سورة طه الآية ١٢٧. وصح في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: (إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) رواه البخاري ومسلم.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أنه لا يجوز للمسلم أن يتمنى تعجيل العقوبة في الدنيا ولا يجوز له أن يدعو الله أن يعجل له عقوبة الذنوب في الدنيا قبل الآخرة بل ذلك من فعل الكفرة كما قال تعالى: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} سورة ص الآية ١٦. وقال تعالى: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم} سورة الأنفال الآية ٣٢. وصح في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خفت – أي ضعف - فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه) قال نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله لا تطيقه - أو لا تستطيعه - أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قال فدعا الله له فشفاه.) رواه مسلم.
وخلاصة الأمر أن الله قد يعجل عقوبة بعض الذنوب كما في عقوبة الظالم فإن الله يمهل ولا يهمل وكما هو الحال في قاطع الرحم والعاق لوالديه وآكل حقوق الناس والمعتدي عليهم بيمينه الكاذب، وقد يكون تعجيل العقوبة في الدنيا رحمة بالمؤمنين لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، أجارنا الله وإياكم منه.