للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[١ - استحاضة أم نفاس]

تقول السائلة: إذا أسقطت المرأة الحامل حملها بعد شهرين من الحمل فهل تعتبر نفساء لا تصلي ولا تصوم أم أنها تعتبر مستحاضة أفيدونا؟

الجواب: إذا أجهضت الحامل فأسقطت جنينها قبل انتهاء الحمل فإن كان تام الخلق فدمها دم نفاس فلا تصلي ولا تصوم حتى ينقطع دمها وهذا باتفاق الفقهاء وأما إذا كان غير تام الخلق فهو محل خلاف بين أهل العلم.

والذي عليه فقهاء الحنفية والحنابلة أن ما أسقطته المرأة إن استبان منه عضو كرأس ٍأو يدٍ أو رجلٍ فهي نفساء وإن لم يستبن منه عضو فهي مستحاضة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا رأت المرأة الدم بعد وضع شيء يتبين فيه خلق الإنسان، فهو نفاس. نص عليه – أي الإمام أحمد - وإن رأته بعد إلقاء نطفة أو علقة، فليس بنفاس.] المغني ١/٢٥٣

وقال علاء الدين المرداوي: [يثبت حكم النفاس بوضع شيء فيه خلق الإنسان، على الصحيح من المذهب، ونص عليه، قال ابن تميم، وابن حمدان وغيرهما: ومدة تبيين خلق الإنسان غالباً ثلاثة أشهر، وقد قال المصنف في هذا الكتاب في باب العِدد: وأقل ما يتبين به الولد: واحد وثمانون يوماً، فلو وضعت علقة أو مضغة لا تخطيط فيها، لم يثبت لها بذلك حكم النفاس.] الإنصاف ١/٣٨٧. وقال شمس الأئمة السرخسي: [فأما إذا أسقطت سقطاً، فإن كان قد استبان شيء من خلقه فهي نفساء فيما ترى من الدم بعد ذلك، وإن لم يستبن شيء من خلقه فلا نفاس لها] المبسوط ٣/٢١٣.

وأما الشافعية فيرون أن المرأة إذا أسقطت علقة أو مضغة فتعبر حينئذ نفساء قال الإمام النووي: [ (فرع) قال أصحابنا لا يشترط في ثبوت حكم النفاس أن يكون الولد كامل الخلقة ولا حياً بل لو وضعت ميتاً أو لحماً تصور فيه صورة آدمي أو لم يتصور وقال القوابل إنه لحم آدمي ثبت حكم النفاس هكذا صرح به المتولي وآخرون ... ] المجموع ٢/٥٣٢. ويرى المالكية أن كل ما تسقطه المرأة من دم مجتمع فما فوقه تعتبر به نفساء. شرح الخرشي على مختصر سيدي خليل ٤/١٤٣.

والذي يترجح لديَّ ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة أن المرأة تصير نفساء إذا أسقطت ما استبان منه عضو وأما إذا أسقطت ما لم يستبن منه عضو فلا تعتبر نفساء بل تعد مستحاضة وقد ذكر العلماء أن أقل مدة يمكن أن يستبين فيها خلق الجنين واحد وثمانون يوماً أي بعد انتهاء مرحلة العلقة من المراحل التي يمر بها الجنين كما ورد في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة) رواه البخاري ومسلم. وقد دلَّ هذا الحديث على أن المراحل التي يمر بها الجنين هي: أربعون يوماً نطفة وأربعون يوماً علقة وأربعون يوماً مضغة والمضغة قد تكون مخلقة وقد تكون غير مخلقة أي أن التخلق يكون بعد ثمانين يوماً كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} سورة الحج الآية ٥. وبعد ذلك تنفخ في الجنين الروح. وهذه المراحل هي التي ذكرها الله جل جلاله بقوله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًاءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} سورة المؤمنون الآيات ١٢-١٤. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وحديث ابن مسعود بجميع طرقه يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار كل طور منها في أربعين ثم بعد تكملتها ينفخ فيه الروح, وقد ذكر الله تعالى هذه الأطوار الثلاثة من غير تقييد بمدة في عدة سور, منها في الحج وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في كتاب الحيض في " باب مخلقة وغير مخلقة " ودلت الآية المذكورة على أن التخليق يكون للمضغة, وبين الحديث أن ذلك يكون فيها إذا تكاملت الأربعين وهي المدة التي إذا انتهت سميت مضغه, وذكر الله النطفة ثم العلقة ثم المضغة في سور أخرى وزاد في سورة قد أفلح – المؤمنون - بعد المضغة (فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً) الآية, ويؤخذ منها ومن حديث الباب أن تصير المضغة عظاماً بعد نفخ الروح, ووقع في آخر رواية أبي عبيدة المتقدم ذكرها قريباً بعد ذكر المضغة " ثم تكون عظاماً أربعين ليلة ثم يكسوا الله العظام لحماً " وقد رتب الأطوار في الآية بالفاء لأن المراد أنه لا يتخلل بين الطورين طور آخر , ورتبها في الحديث بثم إشارة إلى المدة التي تتخلل بين الطورين ليتكامل فيها الطور, وإنما أتى بثم بين النطفة والعلقة لأن النطفة قد لا تتكون إنساناً, وأتى بثم في آخر الآية عند قوله: (ثم أنشأناه خلقاً آخر) ليدل على ما يتجدد له بعد الخروج من بطن أمه ... ] فتح الباري ١١/٥٨٩. إذا تقرر هذا فإن الضابط المعتبر في التمييز بين الدم الذي يعد نفاساً والدم الذي يعد استحاضة هو أنه إذا كان الجنين قد تخلق فالدم دم نفاس، وإذا لم يتخلق الجنين فالدم دم استحاضة وبناءً على ما مضى فإن المستحاضة تصلي وتصوم ويأتيها زوجها حيث إن المستحاضة في حكم الطاهر [قال البركوي من علماء الحنفية: الاستحاضة حدث أصغر كالرعاف. فلا تسقط بها الصلاة ولا تمنع صحتها أي على سبيل الرخصة للضرورة، ولا تحرم الصوم فرضاً أو نفلاً، ولا تمنع الجماع - لحديث حمنة: أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يأتيها - ولا قراءة قرآن، ولا مس مصحف، ولا دخول مسجد، ولا طوافاً إذا أمنت التلويث. وحكم الاستحاضة كالرعاف الدائم، فتطالب المستحاضة بالصلاة والصوم. وكذلك الشافعية، والحنابلة، قالوا: لا تمنع المستحاضة عن شيء، وحكمها حكم الطاهرات في وجوب العبادات ... وقال المالكية كما في الشرح الصغير: هي طاهر حقيقة.] الموسوعة الفقهية الكويتية ٣/٢٠٩.

ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة قالت جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال وقال أُبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت) رواه البخاري، وجاء في رواية الترمذي: (عن عائشة قالت جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال لا إنما ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي. قال أبو معاوية في حديثه: وقال توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت) ... قال أبو عيسى – أي الترمذي - حديث عائشة حديث حسن صحيح، وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين وبه يقول سفيان الثوري ومالك وابن المبارك والشافعي أن المستحاضة إذا جاوزت أيام أقرائها اغتسلت وتوضأت لكل صلاة) سنن الترمذي ١/٢١٧-٢٢٠. وقال المباركفوري في شرح الحديث: [وفي الحديث دليل على أن المرأة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة تعتبر دم الحيض وتعمل على إقباله وإدباره فإذا انقضى قدره اغتسلت عنه ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث فتتوضأ لكل صلاة لكنها لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة مؤادة أو مقضية لظاهر قوله (ثم توضئي لكل صلاة) وبهذا قال الجمهور. ... ] تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي ١/٣٣٢.

وخلاصة الأمر أن الحامل إذا أجهضت جنيناً تام الخلق فهي نفساء فلا تصلي ولا تصوم وإذا أجهضت جنيناً قد استبان منه عضو فهي نفساء أيضاً وأما إذا أجهضت جنيناً لم يستبن منه عضو فهي مستحاضة تصلي وتصوم.

<<  <  ج: ص:  >  >>