[٢٦ - تخزين المواد الغذائية وعلاقته بالتوكل على الله]
يقول السائل: في هذه الأيام العصيبة يكثر الناس من شراء المواد الغذائية وتخزينها. فهل هذا الأمر يتنافى مع التوكل على الله سبحانه وتعالى؟
الجواب: إن التوكل على الله سبحانه وتعالى أمر مطلوب شرعاً وجزء من عقيدة المسلم قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) سورة آل عمران الآية ١٥٩. وقال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) سورة آل عمران الآية ١٢٢.
وقال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْءَامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) سورة يونس الآية ٨٤.
وقال تعالى أيضاً: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) سورة الفرقان الآية ٥٨ وغير ذلك من الآيات.
فالمسلم يعتمد على الله سبحانه ويتوكل عليه وحده ولكن التوكل على الله سبحانه وتعالى لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب فالمطلوب من المسلم أن يأخذ بالأسباب ثم يتوكل على الله جل جلاله. فقد ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أرسل ناقتي وأتوكل على الله فقال صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل) . رواه الترمذي وابن حبان وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي ٢/٣٠٩.
قال الإمام ابن العربي المالكي: [قد ورد صحيحاً بقريب من هذا المعنى صحيح. وذلك أن حقيقة التوكل لا ينافيه النظر في الأسباب بعد المعرفة بمقادير وإنزال منزلتها فأما التفويض فقطع الأسباب فلا يقدر عليه البشر وإنما هو لآحاد من الخلق وقليل ما هم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بالأسباب سنة للخلق وتطييباً لنفوسهم وإلا فمنزلته أعظم من منزلة مريم ولكنه صلى الله عليه وسلم بعث صلاحاً للدين والدنيا ومقيماً لقانونيهما] عارضة الأحوذي ٩/٢٣٥.
إذا تقرر هذا فإن ادخار الأطعمة وغيرها لا ينافي التوكل على الله سبحانه وتعالى بل هو أخذ بالأسباب الشرعية وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخر قوت سنة لأهله قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، وكيف نفقات العيال؟
ثم قال: [حدثني محمد بن سلام أخبرنا وكيع عن ابن عيينة قال: قال لي معمر قال لي الثوري: هـ سمعت في الرجل يجمع لأهله قوت سنتهم أو بعض السنة؟ قال معمر: فلم يحضرني. ثم ذكرت حديثاً حدثناه ابن شهاب الزهري عن مالك بن أوس عن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم) . قال الحافظ ابن حجر: [قال ابن دقيق العيد: في الحديث جواز الادخار للأهل قوت سنة وفي السياق ما يؤخذ منه الجمع بينه وبين حديث (كان لا يدخر شيئاً لغد) فيحمل على الادخار لنفسه وحديث الباب على الادخار لغيره ولو كان له في ذلك مشاركة لكن المعنى أنهم المقصد بالادخار دونه حتى لو لم يوجدوا لم يدخر قال: والمتكلمون على لسان الطريقة جعلوا أو بعضهم ما زاد على السنة خارجاً عن طريقة التوكل انتهى. وفيه إشارة إلى الرد على الطبري حيث استدل بالحديث على جواز الادخار مطلقاً خلافاً لمن منع ذلك وفي الذي نقله الشيخ تقييد بالسنة اتباعاً للخبر الوارد لكن استدلال الطبري قوي بل التقييد بالسنة إنما جاء من ضرورة الواقع لأن الذي كان يدخر لم يكن يحصل إلا من السنة إلى السنة لأنه كان إما تمراً وإما شعيراً فلو قدر أن شيئاًَ مما يدخر كان لا يحصل إلا من سنتين إلى سنتين لاقتضى الحال جواز الادخار لأجل ذلك والله أعلم. ومع كونه صلى الله عليه وسلم كان يحتبس قوت سنة لعياله فكان في طول السنة ربما استجره منهم لمن يرد عليه ويعوضهم عنه وذلك مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير اقترضه قوتاً لأهله. واختلف في جواز ادخار القوت لمن يشتريه من السوق قال عياض: أجازه قوم واحتجوا بهذا الحديث ولا حجة فيه لأنه إنما كان من مغل الأرض ومنعه قوم إلا إن كان لا يضر بالسعر وهو متجه إرفاقاً بالناس ثم محل هذا الاختلاف إذا لم يكن في حال الضيق وإلا فلا يجوز الادخار في تلك الحالة أصلاً] فتح الباري ٩/٦٢٢-٦٢٤.
ويجب التنبيه إلى أمرين في هذه المسألة: الأول: إنه لا ينبغي للناس التهافت الكبير على شراء المواد الغذائية بحيث أن الأسواق تكاد تفرغ مما فيها وأن يشتري الإنسان قدر حاجته ولا يبالغ في ذلك لما في المبالغة من أضرار قد تلحق بالمجتمع بشكل عام.
الثاني: على التجار أن يتقوا الله فلا يرفعوا الأسعار ولا يستغلوا إقبال الناس على الشراء برفع الأسعار بحجج واهية كما أن على التجار أن يتقوا الله وينصحوا للناس حيث إن بعض التجار الجشعين قد استغلوا الظروف الحالية فباعوا للناس بضائع قديمة انتهت صلاحيتها فهذا حرام شرعاً لما انطوى عليها من الغش والإضرار بالناس فقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا) رواه مسلم.
وخلاصة الأمر أنه يجوز ادخار المواد الغذائية وغيرها بشرط أن لا يلحق هذا الأمر الضرر بالناس والادخار لا يتنافى مع التوكل على الله سبحانه وتعالى.