[١١٩ - المزارعة جائزة]
يقول السائل: عندي أرضٌ زراعية أعطيها لبعض المزارعين لرزراعتها بالقمح والشعير على أن لي ثلث الناتج منها فما حكم ذلك؟
الجواب: إن ما تقوم به يسمى عند الفقهاء مزارعة وهي عقد على الزرع ببعض الخارج والمزارعة محل خلافٍ بين علماء المسلمين والراجح من أقوال أهل العلم جوازها وهي مشروعة والأدلة على ذلك كثيرة منها:
١. ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطرٍ ما يخرج من ثمرٍ أو زرع) فتح الباري ٥/ ٤٠٩.
٢. قال الإمام البخاري في صحيحه (باب المزراعة بشطر ونحوه. وقال قيس عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين وقال عبد الرحمن ابن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع. وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فله كذا) فتح الباري ٥/ ٤٠٧-٤٠٨.
وهذه المعلقات التي رواها الإمام البخاري بصيغة الجزم وصلها غيره من أهل الحديث كمنا بينه الحافظ ابن حجر في الفتح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على كلام البخاري السابق (فإذا كان جميع المهاجرين كانوا يزارعون والخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة والتابعين من غير أن ينكر ذلك منكر لم يكن إجماع أعظم من هذا، بل إن كان في الدنيا إجماع فهو هذا، لا سيما وأهل بيعة الرضوان جميعهم يزارعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى أن أحلى عمر اليهود إلى تيماء) (مجموع الفتاوى ٢٩/ ٩٧٩) .
وقال ابن القيم: (وهذه – المزارعة – أمر صحيح مشهور قد عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدون من بعده حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعدهم ولم يبقَ في المدينة أهل بيت حتى عملوا به وعمل به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، ومثل هذا يستحيل أن يكون منسوخاً لاستمرار العمل به من النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن قبضه الله، وكذلك استمرار عمل خلفائه الراشدين به فنسخ هذا من أمحل المحال) شرح ابن القيم على سنن أبي داود ٩/ ١٨٤.
والقول بجواز المزارعة ومشروعيتها هو قول أكثر أهل العلم واختاره المحققون من الفقهاء والمحدثين وبه قال الإمام مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وعليه الفتوى عند الحنفية، وبه قال اسحق بن راهويه والأمام النووي وابن تيمية وابن القيم وابن قدامة والشوكاني وغيرهم كثير جداً.
وأما الأحاديث التي ورد فيها النهي عن المزارعة كحديث رافع بن خديج (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع) رواه البخاري.
وكحديث جابر (أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض) رواه ابن حبان وغيره وغيرها من الأحاديث التي ورد فيها النهي عن المزارعة فالجواب عنها من وجوه كثيرة أذكر أهمها:
١. إن النهي الوارد في حديث الرافع بن خديج وغيره إنما هو في المزارعة الفاسدة التي كانت معروفة عندهم وقتئذٍ والتي فيها اشتراط صاحب الأرض لنفسه نتاج بقعة معينة من الأرض أو التبن فهذه منهي عنها ويؤكد ذلك أن رافعاً قد روى تفسير ذلك النهي، فعن رافع بن خديج قال: كنا أكثر الأنصار حقلاً فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك أما الورق فلم ينهنا، رواه البخاري ومسلم.
وفي روايةٍ أخرى (إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وإقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ولم يكن للناس كرىً إلا هذا فلذلك زجر عنه، فأما شيءٌ معلوم مضمون فلا بأس به) رواه مسلم.
والماذيانات: ما ينبت من الزرع على مسايل المياه.
وإقبال الجداول: أوائل السواقي.
وفي رواية أخرى عن رافع قال: (حدَّثني عمايَّ أنهما كانا يكريان الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا ينبت على الإربعاء وبشيءٍ يستثنيه صاحب الأرض قال فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك) رواه البخاري.
والأربعاء: جمع ربيع وهو النهر الصغير.
قال شيخ الإسلام بن تيمية: [فهذا رافع بن خديج -الذي عليه مدار الحديث – يذكر أنه لم يكن لهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كراء إلا بزرع مكانٍ معين من الحقل وهذا النوع حرام بلا ريب عند الفقهاء قاطبة] الفتاوى ٢٩/ ١٠٧.
٢. إن الصحابة رضي الله عنهم أنكروا على رافع روايته. قال زيد بن ثابت وقد حكي له حديث رافع (يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه إنما أتى رجلان قد اقتتلا فقال عليه الصلاة والسلام إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع فسمع رافع قوله لا تكروا المزارع) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الزيعلي حديثٌ حسن. نصب الراية ٤/ ١٨١.
٣. وكذلك ما رواه عمرو بن دينار قال: قلت لطاوس لو تركت المخابرة- أي المزرعة - فإنهم يزعمون أنالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها. فقال: إن أعملهم يعني ابن عباس أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلملم ينه عنها ولكن قال: أن يمنح أحدكم أخاه خيراً له من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً) رواه البخاري وغيره.
٤. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة ولكن امر ان يرفق بعضهم ببعض. رواه الترمذي وصححه.
٥. قال ابن القيم: [إن من تأمل حديث رافع وجمع طرقه واعتبر بعضها ببعض وحمل مجملها على مفسرها ومطلقها على مقيدها علم أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أمر بين الفساد وهو المزارعة الظالمة الجائرة فإنه قال: كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه.. إلى أن قال: قال الليث بن سعد: الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر إذا نظر إليه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز.
وقال ابن المنذر: قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لتلك العلل. (شرح بن القيم على سنن أبي داود ٩/١٨٥ - ١٨٦) .
٦. قال الإمام النووي: [.... ولأن المعنى المجوز للمساقاة موجود في المزارعة قياساً على القراض فإنه جائز بالإجماع وهو كالمزارعة في كل شيء ولأن المسلمين في جميع الأمصار والأعصار مستمرون على العمل بالمزارعة] شرح النووي على صحيح مسلم ١٠/٢١٠.
وبهذا العرض الموجز يظهر لنا أن المزارعة جائزة شرعاً والمسألة تحتاج إلى بحث أطول ولكن المقام لا يتسع.