للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٩ - أنصبة الزكاة توقيفية لا يجوز تعديلها مطلقا]

يقول السائل: ما قولكم فيمن يزعم أن أنصبة الزكاة المقدرة شرعاً إنما هي من باب السياسة الشرعية وقد وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لمناسبتها للأوضاع الاقتصادية في عهده صلى الله عليه وسلم ولا مانع من تغييرها لتتفق مع الأوضاع الاقتصادية للناس في كل عصر؟

الجواب: من المعلوم عند أهل العلم أن الزكاة من العبادات، والأصل في العبادات التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لا بد أن تكون مأموراً بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟ ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) سورة الشورى الآية ٢١.] القواعد النورانية ص ١١٢. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، وإلا دخلنا في معنى قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} سورة الشوري: الآية ٢١ والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا} سورة يونس الآية ٥٩ ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِْ وَهَذَا لشركائنا فَمَا كَانَ لشركائهم فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شركائهم سَاء مَا يَحْكُمُونَ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} سورة الأنعام الآيتان ١٣٦ـ ١٣٨، فذكر ما ابتدعوه من العبادات، ومن التحريمات. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حُنَفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزِل به سلطانا) . وهذه قاعدة عظيمة نافعة ... ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ٢٩/١٧.

ومن المعلوم أن تحديد أنصبة الزكاة في الأموال الزكوية ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء في الحديث الطويل عن أنس رضي الله عنه: (أن أبا بكر رضي الله عنه كتب لهم إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين التي أمر الله بها ورسوله فمن سُئِلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سُئل فوق ذلك فلا يعطه، فيما دون خمس وعشرين من الإبل الغنم في كل خمس ذود شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها ابنة مخاض إلى خمس وثلاثين ... وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدةً ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت ففي كل مائة شاة ... ) . والحديث بطوله [رواه البخاري في صحيحه مفرقاً في كتاب الزكاة فجمعته بحروفه] قاله الإمام النووي في المجموع للنووي ٥/٣٨٣.

وورد في الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعةً، ومن كل أربعين مسنة ... ) رواه مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث حسن. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود ١/٢٩٦، وحكى الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الحافظ ابن عبد البر أنه قال: لا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقر على ما في حديث معاذ وأنه النصاب المجمع عليه فيها، انظر نيل الأوطار ٤/١٤٩.

وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (كتب كتاب الصدقة وفيه وفى الغنم في كل أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة فإذا زادت واحدة ففيها شاتان فإذا زادت على المائتين شاة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة فان كانت الغنم أكثر من ذلك ففي كل مائة شاة) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم وقال الترمذي حديث حسن، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود ١/٢٩٤.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمسة أوسق في التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة) رواه البخاري ومسلم

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة) رواه مسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وفي الركاز الخمس) رواه البخاري ومسلم، وغير ذلك من الأحاديث.

إذا تقرر أن تحديد أنصبة الزكاة توقيفية فلا يجوز لأحد تغييرها بزيادة أو نقص ولاشك أن الشارع الحكيم له حكمة في هذه التقديرات قال العلامة شاه ولي الله الدهلوي: [الحكمة في أنصبة الزكاة أقول: إنما قدر من الحب والتمر خمسة أوسق، لأنها تكفي أقل أهل بيت إلى سنة. وذلك لأن أقل البيت الزوج والزوجة وثالث - خادم أو ولد بينهما - وما يضاهي ذلك من أقل البيوت. وغالب قوت الإنسان رطل أو مُدٌّ من الطعام، فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار كفاهم لسنة، وبقيت بقية لنوائبهم أو إدامهم. وإنما قدّر من الورق خمس أواق، لأنها مقدار يكفي أقل أهل بيت سنة كاملة إذا كانت الأسعار موافقة في أكثر الأقطار. واستقرئ عادات البلاد المعتدلة في الرخص والغلاء تجد ذلك. وإنما قدّر من الإبل خمس ذود، وجعل زكاته شاة، وإن كان الأصل ألا تؤخذ الزكاة إلا من جنس المال، وأن يجعل النصاب عدداً له بال؛ لأن الإبل أعظم المواشي جثة، وأكثرها فائدة: يمكن أن تُذبح، وتُركب، وتُحلب، ويُطلب منها النسل، ويُستدفأ بأوبارها وجلودها. وكان بعضهم يقتني نجائب قليلة تكفي كفاية الصرمة – مجموعة من الإبل - وكان البعير يسوَّى في ذلك الزمان بعشر شياه، وبثمان شياه، واثنتي عشرة شاة، كما ورد في كثير من الأحاديث فجعل خمس ذود في حكم أدنى نصاب من الغنم، وجعل فيها شاة] حجة الله البالغة ٢/٧٦.

وخلاصة الأمر أن تحديد أنصبة الزكاة توقيفي ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لأحد مهما كان حاكماً أو محكوماً أن يغيره بزيادة أو نقص.

<<  <  ج: ص:  >  >>