المسؤولية الطبية، يقول السائل: متى يتحمل الطبيب المسؤولية عن الأضرار التي تلحق بالمريض أو التي تؤدي إلى وفاة المريض؟
الجواب: من المعلوم أنه لا يجوز لأي إنسان ممارسة مهنة الطبيب إلا من درس الطب في كليات الطب وأتم سنوات الدراسة بنجاح وأعطي الشهادة الأولى في الطب وقام بالممارسة العملية تحت إشراف الأطباء الأكثر خبرة منه من خلال ما يعرف بسنة الامتياز. وأما من يمارس التطبيب دونما دراسة ودراية فهو متطبب جاهل يضمن كل تصرف يصدر عنه فقد ورد في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. وجاء في حديث آخر قول عليه الصلاة والسلام:(أيما طبيبُ تَطَببَ على قوم لا يعرف له تَطَبُبٌ قبل ذلك فأعنت فهو ضامن) رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. انظر صحيح سنن أبي داود ٣/٨٦٦-٨٦٧. وقال العلامة ابن القيم شارحاً الحديث الأول:[... وأما الأمر الشرعي فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل. فإذا تعاطى علم الطب وعمله ولم يتقدم له به معرفة فقد هجم بجهل على إتلاف الأنفس وأقدم بالتهور على ما لم يعلم فيكون قد غرر بالعليل فيلزمه الضمان لذلك وهذا إجماع من أهل العلم. قال الخطابي: لا أعلم خلافاً في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامناً. والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعدٍ. فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية وسقط عنه القود - أي القصاص - لأنه لا يستبد بذلك بدون إذن المريض ...] . ثم بين العلامة ابن القيم الحالات التي يكون فيها الطبيب مسئولاً عن وفاة المريض أو عن الأضرار التي تلحق بالمريض وألخصها فيما يلي: الأولى: أن يكون الطبيب حاذقاً ماهراً أعطى المهنة حقها ولم تجن يده فتولد من فعله المأذون به من جهة الشارع ومن جهة المريض تلف العضو أو موت المريض فهذا الطبيب لا يتحمل شيئاً من المسؤولية باتفاق الفقهاء لأن وفاة المريض أو تلف العضو ناتج عن فعل مأذون به شرعاً ومأذون به من المريض أو وليه إذا كان عمل الطبيب وفق قواعد الطب المعروفة ولم تخطئ يده. الثانية: متطبب جاهل باشرت يده المريض فتلف عضو منه أو مات فإن هذا المتطبب ضامن لما جنت يداه ويجب أن يعاقب أيضاً على تعديه وممارسته الطب دون أن يكون مؤهلاً لذلك. الثالثة: أن يكون الطبيب حاذقاً ماهراً أذن له وأعطى الصنعة حقها ولكن أخطأت يده وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفته فتقوم لجنة طبية من أهل الاختصاص بفحص ما أقدم عليه الطبيب وتبين أن ما قام به خطأً فحينئذ فإن الطبيب يضمن ما أقدم عليه. الرابعة: أن يكون الطبيب ماهراً حاذقاً اجتهد فوصف للمريض دواء فأخطأ في اجتهاده فقتله فهذا يخَّرج على قولين عند الفقهاء: فمنهم من يرى أن دية المريض القتيل على بيت المال. ومنهم من يرى أن الدية على عاقلة الطبيب. الطب النبوي بتصرف ص٢٦٤-٢٦٦. ويرى العلماء المعاصرون أن المسؤولية الطبية تنقسم إلى قسمين: ١. المسؤولية الأخلاقية الأدبية والجنائية: وهي متعلقة بسلوك الطبيب والهيئة الطبية من ممرضين وفنيين في المختبرات والأشعة ... الخ. ومن أمثلتها: قضايا الغش والكذب والتزوير في الشهادات والتقارير الطبية سواء أكانت لمصلحة المريض أو ضده. ومن أمثلتها: إجراء عملية جراحية مثل الزائدة الدودية لشخص لا يعاني من التهاب الزائدة ويجريها الطبيب للحصول على المال. وكذلك المستشفيات الخاصة التي تطلب من الأطباء في بعض الأحيان أن يزيدوا من الفحوص الطبية وإن كانت غير مطلوبة لتشخيص المرض ولكن للحصول على المال فينبغي تحميل الأطباء والمشرفين على المستشفيات المسؤولية عن مثل هذه الحالات وخاصة إذا لحق ضرر بالمريض. ٢. المسؤولية المهنية: ويسأل الطبيب والهيئة الطبية عن الأضرار التي تلحق بالمريض عمداً أو جهلاً أو خطأً. أما العمد فلا يتصور من الطبيب أن يتعمد الإضرار بالمريض لأن وظيفة الطبيب هي مساعدة المريض على الشفاء. ولكن إن ثبت بالأدلة الصحيحة وجود الاعتداء عن عمد فإن الطبيب يعاقب ويضمن ما لحق بالمريض من الأضرار. وأما الجهل: فإن الطبيب يسأل عن الجهل بالمهنة سواء أكان جاهلاً بجميع الطب كمن ادعى الطب وهو لا يعلمه أو كان جاهلاً بجزء من الطب كالطبيب يعلم فرعاً من الطب ولا يعرف غيره كالطبيب الباطني إذا أجرى عملية لمريض في عينه فأتلفها فإنه يضمن. وأما الخطأ فإن الطبيب يسأل عن الخطأ الفاحش الذي يتجاوز فيه الطبيب الحد المعتبر عند أهل الاختصاص ولم يلتزم بأصول الطب المعتبرة حسب الزمان والمكان كأن يجري الطبيب عملية جراحية قد استغني عنها بعملية جراحية أخرى أو أن يداوي قرحة الإثني عشر بإزالة جزء من المعدة والإثني عشر مع وجود أدوية تقوم بمداوة القرحة وشفائها. وكأن يخطئ الجراح نتيجة الإهمال وعدم الانتباه مثل نسيان الشاش وبعض أدوات الجراحة في جوف المريض أو إصابة شريان أو عضو بسبب من خطأ الجراح أو مساعده أو حدوث إنتان بسبب عدم تعقيم الأدوات الجراحية ... فإن الطبيب وطاقمه الطبي يضمنون كل ضرر يلحق بالمريض لأن ما قاموا به يعتبر خروجاً عن الأصول الطبية المعتبرة. وينبغي أن يعلم أن الخطأ الذي يقع فيه الطبيب يضمنه الطبيب أولاً وكذلك المستشفى أو الجهة التي يعمل فيها الطبيب فإن إدارة المستشفى تتحمل جزءاً من المسؤولية لأن المريض عندما يتعامل مع المستشفى فإنه يتعامل مع شخص معنوي وهو لا يتعامل مع الطبيب بصفته الشخصية ولكن بصفته موظفاً لدى المستشفى. لذلك فإذا حصل خطأ أو تقصير من الطبيب أو أي فرد في الهيئة الطبية في المستشفى فإن إدارة المستشفى مسؤولة بالتضامن مع موظفيها حيث إن إدارة المستشفى تملك سلطة التوجيه والإشراف والرقابة. انظر المسؤولية الطبية ص ١٢٣. وأخيراً ينبغي التنبيه على أن تكون العلاقة بين الطبيب ومريضه علاقة طيبة فيتلطف الطبيب بالمريض ويكون به رحيماً وعليه حليماً وبجيبه رفيقاً فلا يطلب منه الأموال الطائلة ولا يحمله ما لا يطيق. ونلاحظ في أيامنا هذه أن مهنة الطب تلك المهنة الإنسانية تحولت عند بعض الأطباء وعند كثير من أصحاب المستشفيات إلى حسابات مادية خالصة. وختاماً أذكر وصف الطبيب المسلم كما تبنته الجمعية الطبية الإسلامية بأمريكا الشمالية سنة ١٩٧٧ م والذي يعكس الفكرة الإسلامية لآداب مهنة الطب فالطبيب المسلم:[يجب أن يؤمن بالله وبتعاليم الإسلام وسلوكياته في حياته الخاصة والعامة. وأن يكون عارفاً لجميل والديه ومعلميه ومن هم أكبر منه. وأن يكون بسيطاً متواضعاً رفيقاً رحيماً صبوراً متحملاً. وأن يسلك الطريق المستقيم ويطلب من الله دوام التوفيق. وأن يظل دائماً على دراية بالعلوم الطبية الحديثة وينمي مهارته باستمرار طلب العون عندما يلزمه ذلك. وأن يستشعر أن الله هو الذي يخلق ويملك جسد المريض وعقله فيعامل المريض في إطار تعاليم الله متذكراً أن الحياة هي هبة الله للإنسان وأن الحياة الآدمية تبدأ من لحظة الإخصاب ولا يمكن سلبها إلا بيد الله أو برخصة منه ويتذكر أن الله يراقب كل فكر وعمل. وأن يلتزم بالقوانين التي تنظم مهنته وأن يتبع أوامر الله كمنهج وحيد حتى لو اختلفت مع متطلبات الناس أو رغبات المريض. وألا يصف أو يعطي أي شيء ضارٍ وأن يقدم المساعدة اللازمة دون اعتبار للقدرة المادية أو أصل المريض أو عمله وأن يقدم النصيحة اللازمة للجسم والعقل وأن يحفظ سر المريض. وأن يتوخى الأسلوب المناسب في التخاطب وأن يفحص المريض من الجنس الآخر في وجود شخص ثالث ما تيسر ذلك. وألا ينتقد زملاءه الأطباء أمام المرضى أو العاملين في الحقل الطبي. وأن يسعى دائماً إلى تبني الحكمة في كل قراراته] . مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد ٨ ج ٣/١١٤. *****