يقول السائل: ورد في الحديث: (لا غيبة لفاسق) فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل تجوز غيبة الفاسق؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن الغيبة هي أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو خلقه أو في فعله أو قوله أو دينه أو دنياه كما قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين ٣/١٤٠. وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) رواه مسلم. والغيبة من كبائر الذنوب عند جمهور أهل العلم. قال القرطبي:[لا خلاف أن الغيبة من الكبائر وأن من اغتاب أحداً عليه أن يتوب إلى الله عز وجل] تفسير القرطبي ١٦/٣٣٧. والغيبة من المعاصي التي يتساهل فيها كثير من الناس لأنها كلام يجري على اللسان ومعظم الناس لا يلقون بالاً لما يتكلمون ولا يقدرون عواقب أمر الغيبة فقد ورد في شأنها من الترهيب ما تقشعر له قلوب المؤمنين فمن ذلك قول الله تعالى:(ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) سورة الحجرات الآية ١٢. وقال صلى الله عليه وسلم:(كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه مسلم , وعن عائشة رضي الله عنها قالت:(قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا - قال بعض الرواة: تعني قصيرة - فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) رواه الترمذي وأبو داود والبيهقي وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود ٣/٩٢٣. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) رواه أحمد وأبو داود وصححه الشيخ الألباني في السلسة الصحيحة ٢/٥٩. وغير ذلك من الأحاديث راجعها إن شئت في كتاب " الزواجر عن اقتراف الكبائر " لابن حجر الهيتمي المكي ٢/١٦-٢٤. إذا تقرر هذا فنعود إلى السؤال فأقول أما ما ورد أنه (لا غيبة لفاسق) فهذا ليس حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد من طرق كلها لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال العلامة ابن القيم:[قال الدارقطني والخطيب قد روي من طرق وهو باطل] المنار المنيف ص ١٣٤. وقال الشيخ الألباني:[باطل رواه الطبراني في الكبير وأبو الشيخ في التاريخ وابن عدي ... الخ] سلسلة الأحاديث الضعيفة ٢/٥٣. وقال الشيخ المناوي:[قال الحاكم هذا حديث غير صحيح ولا يعتمد عليه وقال ابن عدي عن أحمد بن حنبل حديث منكر] فيض القدير ٥/٤٨١. وقال الشيخ العجلوني بعد أن ذكر أقوال المحدثين في الحديث:[وبالجملة فالحديث كما قال العقيلي ليس له أصل وقال الفلاس إنه منكر] كشف الخفاء ومزيل الإلباس ٢/١٧٢. وذكر مثل كلامه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧/٥٥٨. وبهذا يظهر لنا أن هذا الحديث باطل وغير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن أهل العلم يرون أن الفاسق المجاهر بفسقه تجوز غيبته ضمن الحالات التي تجوز فيها الغيبة. قال الإمام النووي: [اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهو ستة أسباب: الأول: التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول ظلمني فلان بكذا. الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر فلان يعمل كذا فازجره عنه ونحو ذلك ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك كان حراماً. الثالث: الاستفتاء فيقول للمفتي ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه وتحصيل حقي ودفع الظلم؟ ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين ومع ذلك فالتعيين جائز ... الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة. ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه أو معاملته أو غير ذلك أو مجاورته. ويجب على المشاوَر أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة. ومنها إذا رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة وهذا مما يغلط فيه وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد ويلبس الشيطان عليه ذلك ويخيل إليه أنه نصيحة فليتفطن لذلك. ومنها أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها إما بأن لا يكون صالحاً لها وإما بأن يكون فاسقاً أو مغفلاً ونحو ذلك. فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله ولا يغتر به وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به. الخامس: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وأخذ المكس وجباية الأموال ظلماً وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه. السادس: التعريف فإذا كان الإنسان معروفاً بلقب كالأعمش والأعرج والأصم والأعمى والأحول وغيرهم جاز تعريفهم بذلك ويحرم إطلاقه على جهة التنقص ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى. فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه ودلائلها من الأحاديث الصحيحة مشهورة فمن ذلك: عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة - أي القبيلة -) متفق عليه. احتج به البخاري في جواز غيبة أهل الفساد وأهل الريب. وعنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً) رواه البخاري. قال الليث بن سعد أحد رواة هذا الحديث:[هذان الرجلان كانا من المنافقين] . وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت:(أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أبا الجهم ومعاوية خطباني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما معاوية فصعلوك – أي فقير – لا مال له. وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه) متفق عليه. وفي رواية لمسلم:(فأما أبو الجهم فضرَّاب للنساء) . وهو تفسير لرواية (لا يضع العصا عن عاتقه) وقيل معناه كثير الأسفار] رياض الصالحين ص ٥٨٠-٥٨٣. والفاسق الذي تجوز غيبته هو المجاهر بفسقه والفسق هو الخروج عن الطاعة وتجاوز الحد بالمعصية والفسق يقع بالقليل من الذنوب إذا كانت كبائر وبالكثير وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقرَّ به ثم أخلَّ بجميع أحكامه أو ببعضها. الموسوعة الفقهية ٣٣/١٤٠. فتارك الصلاة فاسق عند كثير من العلماء وبعضهم يكفره وشارب الخمر فاسق ومرتكب المحرمات فاسق كالزاني والديوث فاسق وهو الذي يرى المنكر في أهله ويسكت فهؤلاء الفسقة وأمثالهم تجوز غيبتهم ليحذرهم الناس ويعرفوا حالهم. قال القرطبي:[ليس من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المجاهر ... وروي عن الحسن أنه قال: ثلاثة ليست لهم حرمة صاحب الهوى والفاسق المعلن والإمام الجائر] تفسير القرطبي ١٦/٣٣٩. وقال الحسن البصري:[أترغبون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه يحذره الناس] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ٢٨/٢١٩. وقال إبراهيم النخعي:[ثلاث كانوا لا يعدونهن من الغيبة: الإمام الجائر والمبتدع والفاسق المجاهر بفسقه] . وعن الحسن البصري قال:[ليس بينك وبين الفاسق حرمة] . وورد عن عمر بن الخطاب أنه قال:[ليس للفاجر حرمة] . روى هذه الآثار ابن أبي الدنيا في كتابه الصمت ص ١٢٨-١٣٠. وخلاصة الأمر أن غيبة الفاسق المجاهر بفسقه جائزة بل قد تكون واجبة في بعض الحالات. والمجاهرة بالمعاصي من المصائب التي ابتلي بها الناس ومن كثرة المجاهرة بالمعاصي صار كثير من الناس لا يعدونها شيئا ًكترك الصلاة فهو عند ثير من الناس شيء هين وسهل والعياذ بالله. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(كل أمتي معافى إلا المجاهرين) رواه مسلم. وهم الذين يجاهرون بمعاصيهم. وأخيراً ينبغي التنبيه على أمر مهم ألا وهو نصيحة الفسقة بأن يتوبوا ويرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى وأنه لا بد من الإنكار عليهم لما ثبت في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم:(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم. *****