تقول السائلة: تقدم ابن عمي لخطبتي ومعروفٌ عنه كثرة سبه للدين والرب، ووالدي يجبرني على القبول به، وأنا أرفضه، فما حكم قبولي الزواج منه، أفيدونا؟
الجواب: واجب الآباء والأولياء أن يتحروا عمن يتقدم لخطبة بناتهم، وأن ينظروا ويفحصوا أحوالهم، وأن يجعلوا المعيار للقبول والرد هو ما قرره الشرع، فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريضٌ) رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. وجاء في الحديث عن أبي حاتم المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد. قالوا: وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) ثلاث مرات. رواه الترمذي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي ١/٣١٥. وهذا الحديث يقرر أصلاً مهماً في الزواج وهو اعتبار الكفاءة في الدين، فإن ساب الرب والدين ليس كفؤاً للمرأة الصالحة، فشاتم وساب الرب والدين لا ينبغي أن يزوج لأن أمره دائر بين الكفر والفسق على اختلافٍ بين العلماء في حاله. ولا شك أن من الأمور المقلقة والمنكرة انتشار سب الدين وسب الرب في المجتمع بشكل ظاهر وواضح، حيث إن هذه الظاهرة المنكرة أصبحت دارجة على ألسنة كثير من الناس، صغاراً وكباراً ذكوراً وإناثاً، ونسمعها باستمرار كلما تصايح اثنان، وترى بعض الناس يسبون الدين والرب بشكل عادي جداً وكأن الأمر ليس كفراً مخرجاً من الملة، وهذه الظاهرة المنكرة تحتاج إلى علاج شامل لتستأصل من أوساط الناس، وعلاج هذه الظاهرة يحتاج إلى تضافر الجهود من أئمة المساجد والخطباء والمربين والمدرسين والآباء والأمهات وغيرهم. ولا بد أن نغرس معاني الإيمان في نفوس أبنائنا وبناتنا ونعلمهم أن سب الدين وشتم الذات الإلهية من نواقض الإيمان. والأسرة والمسجد لهما دور كبير في ذلك، وكذلك المدرسة، فالمربون من المدرسين والمدرسات عليهم واجب كبير في هذه القضية، خاصة نحو صغار الأطفال الذين قد يسمعون هذه الشتائم لأول مرة في المدرسة من زملائهم أو في الشارع، والحق يقال إن هذه الظاهرة منتشرة في بلادنا بشكل واضح مع الأسف الشديد بخلاف كثير من بلاد المسلمين فلا تكاد توجد عندهم ولا يعرفونها. ويجب أن يعلم أن العلماء قد بينوا أن سب الدين أو سب الرب أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم يُعد كفراً مخرجاً من الملة، وهو ردة عن دين الإسلام إذا كان الساب يعلم ما يصدر عنه، حتى لو كان مستهزئاً، يقول الله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} سورة التوبة الآيتان ٦٥-٦٦. قال القاضي عياض:[لا خلاف أن سابَّ الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم] الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢/٢٦٧. ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام اسحق بن راهوية أحد الأئمة الأعلام قوله:[أجمع المسلمون على أن من سبَّ الله أو سبَّ رسوله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئاً مما أنزل الله عز وجل أو قتل نبياً من أنبياء الله عز وجل أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله] الصارم المسلول على شاتم الرسول ص ٩. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ومن سبَّ الله تعالى، كفر سواء كان مازحاً أو جاداً وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله، أو كتبه قال الله تعالى:{ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} وينبغي أن لا يُكتفى من الهازئ بذلك بمجرد الإسلام حتى يؤدب أدباً يزجره عن ذلك، فإنه إذا لم يُكتف ممن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوبة فممن سب الله تعالى أولى] المغني ٩/٢٨. إذا تقرر أن سب الذات الإلهية وسب الدين كفر مخرج من الملة، فيجب الانتباه إلى الفرق بين كون الشيء كفراً وتكفير الشخص الذي حصل منه ذلك بعينه، فلا نستطيع أن نحكم بكفر كل إنسان إذا صدر منه ما يحكم العلماء أنه كفر، لأن تكفير المعين يحتاج إلى معرفة أن موانع التكفير منتفية عن هذا الشخص المعين، وقد ذكر أهل العلم أن موانع التكفير هي الخطأ والجهل والعجز والإكراه. قال الشيخ العلامة محمد العثيمين: [للحكم بتكفير المسلم شرطان: أحدهما: أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء مما يكفر. الثاني: انطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون عالماً بذلك قاصداً له، فإن كان جاهلاً لم يكفر لقوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} سورة النساء الآية ١١٥. وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} سورة التوبة الآية ١١٥. وقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} سورة الإسراء الآية ١٥. لكن إن فرط بترك التعلم والتبين لم يعذر، مثل أن يبلغه أن عمله هذا كفر فلا يتثبت ولا يبحث، فإنه لا يكون معذوراً حينئذ. وإن كان غير قاصدٍ لعمل ما يكفر لم يكفر بذلك، مثل أن يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ومثل أن ينغلق فكره فلا يدري ما يقول لشدة فرح ونحوه، كقول صاحب البعير الذي أضلها ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت فإذا بخطامها متعلقاً بالشجرة فأخذه فقال:(اللهم أنت عبدي وأنا ربك) أخطأ من شدة الفرح] فتاوى العقيدة ص٢٦٣-٢٦٤. وقد سئل الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي عن سب الدين أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن العظيم هل يكفر ولو كان جاهلاً؟ فقال:[هذا الباب كغيره من أبواب الكفر يُعلَّم ويؤدب فإن عُلِّم وعاند بعد التعليم والبيان كفر، وإذا قيل لا يعذر بالجهل فمعناه يُعلَّم ويؤدب وليس معناه أنه يكفر] فتاوى ورسائل الشيخ عبد الرزاق عفيفي ص٣٧٢. وبناءً على ما تقدم فإن كثيراً من الناس الذين يسبون الدين والرب في بلادنا وتجري هذه الكلمة على ألسنتهم لا نستطيع أن نحكم عليهم بالكفر وبفسخ زواجهم، لأن هؤلاء يجهلون ما يترتب على التلفظ بالسب والشتم من نتائج، وكذلك فإن السب والشتم يصدر منهم من غير قصدٍ ولا إرادة وما كان كذلك فإن الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ عليه كما في يمين اللغو التي يتلفظ بها الإنسان، ولكنه لا يقصد اليمين فهو غير مؤاخذ بذلك، يقول الله تعالى:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} سورة المائدة الآية ٨٩. ويضاف إلى ذلك أن السب والشتم إذا صدر عن الإنسان وهو في حالة من الغضب الشديد بحيث إنه لا يدري ما يصدر منه فأرجو أن لا يؤاخذ على كلامه. ولا يفهمنَّ أحدٌ أن في هذا الكلام تهويناً من هذه الجريمة المنكرة والعادة القبيحة ألا وهي سب الدين والذات الإلهية والرسول صلى الله عليه وسلم، فعلى من وقع منه ذلك أن يتوب إلى الله توبة صادقة نصوحاً، [وشروط التوبة الخمسة هي: الشرط الأول: الإخلاص لله بتوبته، بأن لا يكون الحامل له على التوبة رياء أو سمعة، أو خوفاً من مخلوق، أو رجاء لأمرٍ يناله من الدنيا، فإذا أخلص توبته لله وصار الحامل له عليها تقوى الله عز وجل والخوف من عقابه ورجاء ثوابه، فقد أخلص لله تعالى فيها. الشرط الثاني: أن يندم على ما فعل من الذنب، بحيث يجد في نفسه حسرةً وحزناً على ما مضى، ويراه أمراً كبيراً يجب عليه أن يتخلص منه. الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب وعن الإصرار عليه؛ فإن كان ذنبه تَرْكَ واجبٍ قام بفعله وتَدَارَكَه إن أمكن، وإن كان ذنبُه بإتيانِ محرمٍ أقلع عنه، وابتعد عنه، ومن ذلك إذا كان الذنب يتعلق بالمخلوقين، فإنه يؤدي إليهم حقوقهم أو يستحلهم منها. الشرط الرابع: العزم على أن لا يعود في المستقبل، بأن يكون في قلبه عزم مؤكد ألا يعود إلى هذه المعصية التي تاب منها. الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت القبول، فإن كانت بعد فوات وقت القبول لم تقبل، وفوات وقت القبول عام وخاص: أما العام؛ فإنه طلوع الشمس من مغربها، فالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لا تقبل، لقول الله تعالى:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} سورة الأنعام الآية ١٥٨. وأما الخاص؛ فهو حضور الأجل، فإذا حضر الأجل فإن التوبة لا تنفع لقول الله تعالى:{وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} سورة النساء الآية ١٨.] مجموع فتاوى الشيخ العثيمين ٢/١٥٢. والمطلوب ممن تاب توبة صادقة أن يكثر من الاستغفار ومن فعل الخيرات، فلعل الله أن يتقبل منه يقول سبحانه وتعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} سورة الزمر الآية ٥٣.
وخلاصة الأمر أن سب الدين والرب ردةٌ في حق من ارتكبه عامداً قاصداً عالماً به غير جاهل ولا مكره. وأن شاتم الرب والدين يحرم تزويجه شرعاً حتى يتوب إلى الله عز وجل توبة نصوحاً بشروطها، ولا يجوز لهذا الأب أن يجبر ابنته على الزواج من ابن أخيه ساب الرب والدين حتى يتوب.