للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٤٥ - مسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم]

يقول السائل: إنه سمع الدكتور يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة يتكلم عن مسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يخطئ في الاجتهاد في الأمور الدنيوية وأن كثيراً من الناس قد احتجوا عليه واستفظعوا صدور ذلك منه ونالوا من الدكتور القرضاوي وطعنوا فيه، فما قولكم في ذلك؟

الجواب: جزى الله خيراً الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي على جهوده العلمية المميزة في التأليف والمحاضرات والبرامج التلفزيونية وغيرها، فإنه حقاً فقيه العصر والأوان ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل. وإن من مصائب الأمة الإسلامية في هذا الزمان أن يتكلم في مسائل العلم الشرعي أشباه طلبة العلم الذين إن قرأ الواحد منهم كتاباً أو كتابين ظن نفسه من كبار العلماء ومن أهل الاجتهاد المطلق فيجعل من نفسه حكماً يحكم بين العلماء فيرد عليهم ويصحح ويخطىء كما يشاء ويهوى من دون سند ولا أثارة من علم وهذا مع الأسف نشاهده ونسمعه باستمرار. إن ما قاله الدكتور يوسف القرضاوي سبقه إليه عدد من كبار علماء الإسلام وهو مسطور في كتب أصول الفقه من مئات السنين ولكن ما ذنب الشيخ القرضاوي أن شاتميه لا يقرأون ولا يفقهون. إن مسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم مسألة اختلف فيها العلماء قديماً وتفرع عليها مسألة جواز خطأ اجتهاده صلى الله عليه وسلم وليست من المسائل الجديدة وقد ذكرها العلماء في كتبهم وحكوا فيها اختلاف العلماء فما سبوا ولا شتموا وإن كان بعض العلماء قد خطأ بعض الآراء وصوب غيرها. ولكنهم علماء علماء علماء وليسوا طلبة علم مبتدئين في طلب العلم، قال أبو إسحاق الشيرازي: [كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في الحوادث ويحكم فيها بالاجتهاد وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام. ومن أصحابنا من قال ما كان له ذلك وبه قال بعض المعتزلة] التبصرة في أصول الفقه ص ٥٢١. وجاء في جمع الجوامع وشرحه لجلال الدين المحلي ٢/٣٨٦: [والصحيح جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم ووقوعه لقوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ، (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) عوتب على استبقاء أسرى بدر بالفداء وعلى الإذن لمن ظهر نفاقهم في التخلف عن غزوة تبوك ولا يكون العتاب فيما صدر من الوحي فيكون عن اجتهاد. وقيل يمنع ... الخ] . وفصل الشوكاني مسألة اجتهاد الأنبياء فذكر خلاف العلماء فقال: [المذهب الأول ليس لهم ذلك لقدرتهم على النص بنزول الوحي ... المذهب الثاني أنه يجوز لنبينا صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء وإليه ذهب الجمهور ... ] إرشاد الفحول ص ٢٥٥-٢٥٦. هذه بعض النقول في مسألة الاجتهاد وأما في مسألة الخطأ في الاجتهاد فقال أبو إسحاق الشيرازي: [يجوز الخطأ على رسول صلى الله عليه وسلم في اجتهاده إلا أنه لا يقر عليه بل ينبه عليه. ومن أصحابنا من قال لا يجوز عليه الخطأ] التبصرة في أصول الفقه ص ٥٢٤ ثم ساق أدلة الفريقين وانتصر للقول الأول. وقال الآمدي: [القائلون بجواز الاجتهاد للنبي عليه الصلاة والسلام اختلفوا في جواز الخطأ عليه في اجتهاده فذهب بعض أصحابنا إلى المنع من ذلك. وذهب أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث والجبائي وجماعة من المعتزلة إلى جوازه لكن بشرط أن لا يقر عليه وهو المختار ودليله المنقول والمعقول ... الخ] الإحكام في أصول الأحكام ٤/٢١٦. وقال الكمال بن الهمام: [وقد ظهر أن المختار جواز الخطأ في اجتهاده عليه الصلاة والسلام إلا أنه لا يقر على خطأ بخلاف غيره] تيسير التحرير ٤/١٩٠. ويكفي هذا من كتب الأصول لأن المقام لا يتسع لاستقصاء ما قال الأصوليون في المسألة. وأنا هنا لست في مقام بحث مسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وهل يخطئ في اجتهاده أم لا؟ ولست في مقام الترجيح بين أقوال العلماء في ذلك والذي أريد أن أصل إليه هو أن هذه المسائل وغيرها لا يبحثها ولا يناقشها العوام من طلبة العلم وأشباه المتعلمين وأنه ليس في مقدرتهم الترجيح بين أقوال العلماء في هذه المسائل الاجتهادية الخلافية وكون عالم قال بأحد الأقوال في المسألة لا ينبغي الإنكار عليه والهجوم عليه وسبه وشتمه لأن قوله لا يوافق ما نهوى ونتمنى. إن العلماء كما ترى أخي القارئ قد اختلفوا في هذه المسألة الاجتهادية وأمثالها من المسائل التي لا يوجد فيها نص صريح من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلا يصح الإنكار على عالم قال برأي فيها. وقديماً قال العلماء: [لا يصح الإنكار في مسائل الخلاف] والمقصود بذلك مسائل الخلاف الاجتهادية التي لا يوجد فيها نصوص صريحة من الكتاب أو السنة. فكل مسألة اختلف فيها العلماء ولم يثبت فيها نص صريح يدل على صحة أحد الأقوال فيها وإنما المستند فيها الاجتهاد فلا يجوز الإنكار على العالم فيما قال باجتهاده. لأن المجتهد لم يخالف نصاً بل خالف اجتهاد مجتهد آخر وهذه المسائل لا يعرف فيها المجتهد المصيب على وجه القطع لذا لا ينبغي الإنكار على من خالف رأياً لم يثبت بأنه صواب قطعاً. راجع حكم الإنكار في مسائل الخلاف ص ٧٢-٧٣. قال الإمام النووي: [ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره وكذلك قالوا ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً] شرح النووي على صحيح مسلم ٢/٢٤. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد فهل ينكر عليه أم يهجر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين؟ فأجاب: [الحمد لله، مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ٢٠/٢٠٧. وختاماً فينبغي على طلبة العلم وعلى عامة الناس أن تتسع صدورهم لسماع خلاف العلماء في مسائل العلم الشرعي وعلى هؤلاء وأولئك أن يعلموا أن العلماء عندما يختلفون فإنهم لا يصدرون في اختلافهم عن هوى أو تشهي أو قول في دين الله بغير علم أو مستند. وعليهم أن يعلموا أن الخلافات العلمية في المسائل التي لا يوجد فيها نصوص قطعية ليست مذمومة والخلاف فيها قديم والأمر فيه سعة، فلا تحجروا واسعاً. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فإن الله برحمته وطوله وقوته وحوله ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وجعل السبب في بقائهم بقاء علمائهم واقتدائهم بأئمتهم وفقهائهم وجعل هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أنبيائها وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بها وينتهى إلى رأيها وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام مهد بهم قواعد الإسلام وأوضح بهم مشكلات الأحكام اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة تحيا القلوب بأخبارهم وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم ثم اختص منهم نفراً أعلى قدرهم ومناصبهم وأبقى ذكرهم ومذاهبهم فعلى أقوالهم مدار الأحكام وبمذاهبهم يفتي فقهاء الإسلام] المغني ١/ ٤-٥. ولا بد أن يتأدب طلبة العلم وعامة الناس مع العلماء وأن ينزلوهم منزلة الإكرام والاحترام وإن لم ترق لبعضنا آراؤهم واجتهاداتهم، فلكل مجتهد نصيب. ?????

<<  <  ج: ص:  >  >>