للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٤ - الإسرائيليات في كتب التفسير]

يقول السائل: ما هو موقف أهل العلم من الأخبار الإسرائيلية المذكورة في بعض كتب التفسير، أفيدونا؟

الجواب: الأخبار الإسرائيلية نسبة إلى بني إسرائيل، وهم منسوبون إلى إسرائيل وهو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام، والمراد بالإسرائيليات: الأخبار المنقولة عن بني إسرائيل في التوراة وأسفارها وشروحها، وفي التلمود وشروحه، ويدخل في ذلك ما نقل أيضاً من كتب النصارى، وقد نقل كثير منها عن طريق من أسلم من يهود مثل كعب الأحبار ووهب بن مُنبه وعبد الله بن سلام وغيرهم. ومن المفسرين من ذكر الإسرائيليات ونقدها وبين ما فيها كابن كثير، فتفسيره من خير كتب التفسير، ومنهم من نقلها بأسانيدها وأبرأ ذمته بذلك، كابن جرير الطبري، فالعهدة على القارئ، ومنهم من نقلها ولم يبين حالها كالثعلبي فكان كحاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع؛ مع أنه في نفسه كان فيه خيرٌ ودينٌ، كما قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ١٣/٣٥٤. وقد اتفق أكثر أهل التفسير على أن الإسرائيليات الواردة في التفاسير على ثلاثة أقسام: وقد فصَّلها العلامة العثيمين فقال: [الإسرائيليات: الأخبار المنقولة عن بني إسرائيل من اليهود وهو الأكثر، أو من النصارى. وتنقسم هذه الأخبار إلى ثلاثة أنواع: الأولى: ما أقره الإسلام، وشهد بصدقه فهو حق، مثاله: ما رواه البخاري وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} سورة الزمر الآية ٦٧، والحديث رواه مسلم أيضاً. الثاني: ما أنكره الإسلام وشهد بكذبه فهو باطل، مثاله ما رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها- أي الزوجة - من ورائها، جاء الولد أحول؛ فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} سورة البقرة الآية ٢٢٣. والحديث رواه مسلم أيضاً. الثالث: م لم يقره الإسلام، ولم ينكره، فيجب التوقف فيه، لما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} ) سورة العنكبوت الآية ٤٦، ولكن التحدث بهذا النوع جائز، إذا لم يخش محذور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) رواه البخاري.] تفسير الشيخ العثيمين عن الإنترنت. وقال الإمام ابن كثير [ ... ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحتَه مما بأيدينا مما نشهدُ له بالصدق، فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبَه بما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمِنُ به ولا نكذّبه، وتجوزُ حكايتُه لما تقدّم، وغالبُ ذلك مما لا فائدة فيه تعودُ إلى أمرٍ دينيّ، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيراً، ويأتي عن المفسرين خلافٌ بسبب ذلك، كما يَذكرون في مثل أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعِدّتهم، وعصا موسى من أيِّ شجرٍ كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضُرِبَ به القتيلُ من البقرة، ونوع الشجرة التي كلَّم الله منها موسى إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دينهم ولا دنياهم] تفسير ابن كثير ١/١٧. ولا بد أن نقرر أن العلماء قد بينوا أن ذكر الإسرائيليات في كتب التفسير المعتبرة كتفسير الطبري وابن كثير لا يقدح بحال من الأحوال في كتبهم، ولا يعتبر ذكرها مطعناً فيها ولا في مؤلفيها، لأن هذه الإسرائيليات إنما تذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، كما سبق في كلام ابن كثير، وكما قال أيضاً: [ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو القسم الذي لا يُصَدَّق ولا يُكَذَّب، مما فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في تعيينه لنا، فنذكره على سبيل التحلي به لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه ... ] البداية والنهاية ١/٥. ويجب أن نحسن الظن بعلمائنا ولا ندعي أن ذكرهم للإسرائيليات هو طعن في كلام رب العالمين أو نحو ذلك، كما يزعم بعض المتعالمين الذين يزعمون أنهم يريدون تنقية كتب التفاسير من الإسرائيليات دفاعاً عن كتاب الله عز وجل!!! وبعض الجهلة يدعو إلى حرق كتب التفسير والتخلص منها، قال الدكتور محمد أبو شهبة: [وآراء الناس وأفكارهم متباينة في معالجة هذا الموضوع الخطير - أي الإسرائيليات - فمنهم من يرى الاستغناء عن كتب التفسير التي اشتملت على الموضوعات والإسرائيليات التي جنت على الإسلام والمسلمين، وجرّت عليهم كل هذه الطعون والهجمات من أعداء الإسلام، وذلك بإبادتها أو حرقها ... وهو رأي فيه إسراف وغلو، إذ ليس من شكٍ في أن هذه الكتب فيها بجانب الإسرائيليات علم كثير، وثقافة إسلامية أصيلة، وأن ما فيها من خير وحق أكثر مما فيها من شر وباطل، فهل لأجل القضاء على الشر نقضي على الخير، ولأجل الإجهاز على الباطل نجهز على الحق أيضاً؟! أعتقد أن هذا لا يجوز عقلاً ولا شرعاً.] الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ص ٨. وقال العلامة القاسمي [ ... ومع ذلك فلا مغمز على مفسرينا الأقدمين في ذلك - أي نقل الإسرائيليات - طابق أسفارهم أم لا، إذ لم يألوا جهداً في نشر العلم وإيضاح ما بلغهم وسمعوه؛ إما تحسيناً للظن في رواة تلك الأنباء لا يروون إلا الصحيح، وإما تعويلاً على ما رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي عن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) ، ورواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) . فترخَّصوا في روايتها كيفما كانت، ذهاباً إلى أن القصد منها الاعتبار بالوقائع التي أحدثها الله تعالى لمن سلف؛ لينهجوا منهج من أطاع، فأثني عليه وفاز، وينكبوا عن مهيع من عصى فحقت عليه كلمة العذاب وهلك. هذا ملحظُهم رضي الله عنهم.] تفسير القاسمي ١/٤٥ ـ٤٦.

وينبغي أن يعلم أن موضوع الإسرائيليات في كتب التفسير قد نال حظاً وافراً من البحث، ولا يمكن استيفاؤه في هذه العجالة، ومن أراد التوسع فيه فليرجع إلى المصادر الآتية: ١- الإسرائيليات في التفسير والحديث للدكتور محمد حسين الذهبي ٢- الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير للدكتور محمد بن محمد أبو شهبة ٣- الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير للدكتور رمزي نعناعة، ومع هذه الإحالة ألخص أهم ما قرره العلماء في هذا الموضوع: أولاً: لا يلزم اعتقاد صحة الإسرائيليات، بل هي مجرد أخبار تذكر للاستشهاد لا للاعتماد. ثانياً: لم يثبت عن أحد من السلف أنهم بنوا على الإسرائيليات أي حكم اعتقادي أو عملي، قالت الدكتورة آمال ربيع: [الإسرائيليات في جامع الطبري لم نجدها في مجالات العقيدة أو الأحكام أو الشرائع، ولم نجدها في صلب الدين على الإطلاق، وإنما وجدناها في الجانب القصصي من تفسير القرآن الكريم؛ سواء في قصة الخلق أم في قصص الأنبياء أم الأنساب، وبعض القضايا المتفرقة ذات الطابع القصصي كذلك، وهي مجالات لا خشية منها على جوهر الدين] الإسرائيليات في تفسير الطبري ص ١٣٨. ثالثاً: لم يعتمد المفسرون في تفسير كلام الله عز وجل على الإسرائيليات، وإنما ذكروها مثالاً في التفسير لبيان المعنى وليست حاكمة على النص القرآني ولا قاطعةً بمعنىً من المعاني المحتملة دون غيره.

وأخيراً أنبه على أن بعض المتعالمين في زماننا قد جاؤوا بأسوأ من الإسرائيليات المكذوبة وتلاعبوا في تفسير القرآن الكريم، مثل تفسير القدور الراسيات المذكورة في قوله تعالى {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} سورة سبأ الآية ١٣ بأنها المفاعلات النووية التي امتلكها سليمان عليه السلام، ومثل تفسير قوله تعالى على لسان فرعون {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} سورة القصص الآية ٣٨، بأنه الصرح هو المرصد الفلكي هابل، وغير ذلك من الهبل والخزعبلات.

وخلاصة الأمر أن الإسرائيليات في كتب التفسير ثلاثة أنواع: ما وافق شرعنا فهذا مقبول، وما خالف شرعنا فهو مرفوض، والثالث المسكوت عنه وهو ما لم يوافق شرعنا ولم يخالفه، فهذا نتوقف فيه فلا نصدقه ولا نكذبه، ومع ذلك فهو يُروى ولا يُطوى ولكن على سبيل الاستئناس لا الاعتماد.

<<  <  ج: ص:  >  >>