[٧٢ - التعويضات المالية]
يقول السائل: ما قولكم فيما انتشر بين الناس من أن أخذ العوض حرام شرعاً أفيدونا؟ الجواب: إن مبدأ التعويض عن الضرر مشروع في الفقه الإسلامي وقد فصل العلماء الأسباب الشرعية الموجبة للتعويض المالي ولا يتسع المقام لتفصيلها، وقد قامت على أخذ التعويض المالي أدلة كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ووردت آثار عن الصحابة والتابعين وعمل بهذا المبدأ فقهاء الأمة فمن ذلك قوله تعالى: (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) سورة النساء الآية ٩٢. فقد قرر الله جل جلاله مبدأ التعويض المالي عن قتل النفس المعصومة خطأً وألحق الفقهاء بذلك الدية في القتل العمد وشبه العمد لما ثبت عندهم من الأدلة في ذلك.
وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن هذه نسختها من محمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد وكان في كتابه أن من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول وأن في النفس الدية مائة من الإبل وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرِجل الواحدة نصف الدية وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل وأن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار) رواه النسائي والدارمي وغيرهما وهو حديث صحيح. وورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط أو العصا فيه مئة من الإبل ...) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان وابن القطان وغيرها. وكذلك ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد أو وليده وقضى بدية المرأة على عاقلتها) رواه البخاري ومسلم.
وكذلك ثبت التعويض المالي في الاعتداء على الإنسان فما دون النفس وهو الاعتداء على الأعضاء كقطع اليد أو الرجل وهذا يسمى الأرش عند الفقهاء وقد ثبت ذلك في كتاب عمرو بن حزم الذي سبقت الإشارة إليه.
ومن النصوص الدالة على جواز أخذ التعويض المالي قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) سورة البقرة الآية ١٩٤. وقال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) سورة النحل الآية ١٢٦. ومما يدل على مشروعية التعويض بالمال قصة داود وسليمان عليهما السلام في الغنم التي نفشت في الحرث قال تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّاءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) سورة الأنبياء الآيات ٧٨-٧٩. قال الشوكاني: [فإن قلت فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية والملة الإسلامية قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عيناً أو قيمةً وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث] تفسير فتح القدير ٣/ ٤١٨.
ومما يدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث عن حرام بن محيصة (أن ناقة للبراء دخلت حائطاً فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها) رواه أحمد ومالك. وفي رواية أخرى (أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته عليهم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ٢/٦٨١. وقال الشافعي عن الحديث أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله، التلخيص الحبير ٤/٨٦ والحائط هو البستان إذا كان عليه جدار. عون المعبود ٩/٣٥٠ وحديث البراء يعتبر أصلاً في تضمين أصحاب الحيوانات لما أتلفته حيواناتهم ليلاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها) . قال الحافظ ابن عبد البر: [ضامن هنا بمعنى مضمون] الاستذكار ٢٢/٢٥٠. ومعنى ذلك أنه يلزمهم تعويض أصحاب الزروع والبساتين عما أتلفته حيواناتهم.
ومما يدل على جواز أخذ التعويض المالي أيضاً ما ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال كلوا وحبس الرسول صلى الله عليه وسلم القصعة حتى فرغوا فدفع القصعة الصحيحة وحبس المكسورة) رواه البخاري وفي رواية أخرى عن أنس: (قال أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعاماً في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم طعامٌ بطعامٍ وإناءٌ بإناءٍ) رواه الترمذي وصححه. قال الشوكاني: [قوله (إناءٌ بإناءٍ) فيه دليل على أن القيمي يضمن بمثله ولا يضمن بالقيمة إلا عند عدم المثل ويؤيده ما في رواية البخاري المتقدمة بلفظ ودفع القصعة الصحيحة للرسول وبه احتج الشافعي والكوفيون وقال مالك إن القيمي يضمن بقيمته مطلقا وفي رواية عنه كالمذهب الأول٠ وفي رواية عنه أخرى ما صنعه الآدمي فالمثل وأما الحيوان فالقيمة وعنه أيضا ما كان مكيلاً أو موزوناً فالقيمة وإلا فالمثل قال في الفتح وهو المشهور عندهم وقد ذهب إلى ما قاله مالك من ضمان القيمي بقيمته مطلقاً جماعة من أهل العلم منهم الهادوية ولا خلاف في أن المثلي يضمن بمثله] نيل الأوطار ٦/٧١.
وروى عبد الرزاق بسنده عن الحسن قال أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى امرأة مغيبة - أي زوجها غائب - كان يُدخل عليها فأنكر ذلك فأرسل إليها فقيل لها: أجيبي عمر فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر! قال: فبينا هي في الطريق فزعت فضربها الطلق فدخلت داراً فألقت ولدها فصاح الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بعضهم أن ليس عليك شيء إنما أنت والٍ ومؤدب، قال: وصمت علي فأقبل عليه، فقال: ما تقول؟ قال: إن كانوا قالوا برأيهم أخطأ رأيهم وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك أرى أن ديته عليك فإنك أنت أفزعتها وألقت ولدها في سببك قال: فأمر علياً أن يقسم عقله – أي ديته - على قريش، يعني يأخذ عقله من قريش لأنه خطأ) .
وروي في الأثر أن عمر رضي الله عنه قضى في رجل نخس دابة عليها راكب فصدمت آخر فقتلته أنه على الناخس لا على الراكب. فقه عمر ٢/٨٥.
وخلاصة الأمر أنه يجوز شرعاً أخذ التعويض المالي إذا كان للتعويض سبب مشروع كما هو الحال في الدية والتعويض عن حوادث الاعتداء على الممتلكات ونحو ذلك وأما من اختار العفو فله الأجر والثواب إن كانت نيته في العفو لله تعالى لقوله جل جلاله {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين} سورة الشورى الآية ٤٠. ولقوله تعالى {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} سورة التغابن الآية ١٤.