تعدد المذاهب الفقهية, يقول السائل: لماذا يوجد لدى المسلمين مذاهب فقهية متعددة ومختلفة مع أن القرآن الكريم واحد والسنة النبوية واحدة؟
الجواب: إن تعدد المذاهب الفقهية لدى المسلمين له أسبابه ودواعيه المعتبرة وقبل بيانها لا بد من الإشارة إلى قضيتن هامتين: الأولى: إن الإختلافات الفقهية بين علماء الإسلام كأصحاب المذاهب الأربعة (أبو حينفة ومالك والشافعي وأحمد) هي اختلافات في الفروع أي في المسائل الفقهية والقواعد والأسس التي بنيت عليها تلك الفروع. وأما أصول الإسلام وقواعد العقيدة فهي محل اتفاق بين عامة علماء الإسلام لا خلاف بينهم فيها. الثانية: إن الإختلافات في فروع الإسلام موجودة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم ومن الشواهد على ذلك: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم) رواه البخاري. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماءً فتيمما صعيداً طيباً فصليا ثم وجد الماء في الوقت، فتوضأ أحدهما وأعاد اصلاة ولم يعد الآخر، ثم أتيا الرسول صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال: للذي لم يعد أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي أعاد لك الأجر مرتين) رواه أبو داود والنسائي وهو حديثٌ صحيح. ونلاحظ في هذين الحديثين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الصحابة اختلافهم في قضايا فرعية بل أقر كل طرف على ما وصل إليه اجتهاده. واختلاف فقهاء المسلمين في أبواب الفقه الإسلامي له أسبابه المعتبرة وكل إمام من أئمة الفقه بنى مذهبه الفقهي على قواعد وأسس وضوابط معروفة. وهؤلاء الأئمة ما كانوا يصدرون في اجتهاداتهم وآرائهم الفقهية عن هوىً أو تشهٍ أو قولٍ في دين الله بغير دليل وإنما لدى كل منهم أصولٌ بنى مذهبه عليها، وأشير بإيجاز إلى بعض الأسباب التي نتج عنها الإختلاف الفقهي منها: - أن لا يبلغ الحديث أحد الفقهاء فيقول قولاً بخلاف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصةً أننا نعلم أنه يصعب على أحد من أهل العلم الإحاطة بجميع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خفيت بعض الأحاديث على عدد من كبار الصحابة كأبي بكر وعمر، فمن اب أولى أن تخفى على الفقهاء الذين جاؤوا بعد ذلك أحاديث نبوية فاجتهدوا بخلافها. - ومنها: أن الحديث قد يصل إلى الإمام ولكنه لا يكون ثابتاً عنده لعلة من علل الحديث المعتبرة وقد يكون هذا الحديث قد وصل إلى إمام آخر بطريق صحيح فيأخذ به الثاني دون الأول فيقع اختلاف بينهما لذلك. - ومنها: الاختلاف في فهم النصوص من كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام لكون لفظ وقع في النص وهو مشترك أو مجمل أو غريب له عدة معان كما في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) . فالقرء في لغة العرب استعمل في الطهر واستعمل في الحيض فهو لفظ مشترك فمن الفقهاء من أخذ بالأول ومنهم من أخذ بالثاني. - ومنها: إن الأدلة قد تتعارض في نظر المجتهد فيقدم دليلاً على آخر لأمور يعتقدها المجتهد من المرجحات. - وغير ذلك من الأسباب التي أدت إلى وقوع الاختلافات الفقهية التي يصعب شرحها في هذا المقام ومحل بحثها كتب أسباب الاختلافات الفقهية ولكن ينبغي أن يعلم أن الاختلافات الفقهية التي وقعت بين علماء الإسلام لم تفسد المودة والمحبة بينهم وكان كل منهم يحترم الآخر ويقدره وكل منهم يلتمس العذر للصاحبه وإن خالفه ويقدر وجهة نظره، وما أوصلهم ذلك الاختلاف إلى الخصام أو تفسيه العقول أو الحط من مكانة المخالف أو الطعن فيه، بل كان كل منهم يثني على مخالفه ويمدحه بما فيه من خصال حميدة ومن علم واسع وفق دقيق. قال الإمام الشافعي:(الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة) . وقال الإمام الشافعي أيضاً:[مالك بن أنس معلمي وعنه أخذت العلم وإذا ذكر العلماء فمالك النجم] . وعن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل قال:(قلت لأبي أي رجل كان الشافعي فإني أسمعك تكثر الدعاء له. فقال: كان الشافعي رحمه الله كالشمس للدنيا وكالعافية للناس فانظر هل لهذين من خلف أو عرض؟ وقال الإمام الشافعي:[خرجت من بغداد فما خلفت بالعراق رجل أفضل ولا أعلم ولا أتقى من أحمد بن حنبل] . فانظر يا أخي المسلم إلى هذا الأدب الجم والخلق الرفيع الذي كان يتحلى به علماء الإسلام واقتبس منه قبساتهم واستضئ بنورهم (اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) .