[٤ - لا تضاعف السيئات في شهر رمضان المبارك بل تغلظ]
يقول السائل: ما صحة القول بأن السيئات تضاعف في شهر رمضان المبارك كما تضاعف الحسنات، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن حرمة شهر رمضان المبارك حرمة عظيمة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق عن عقوبة من ينتهك حرمة رمضان فقد ورد في حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضَبعيَّ - أي بعضُديَّ - فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا: اصعد فقلت: إني لا أطيقه فقالا: إنا سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، قال قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم ... ) رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة ٧/١٦٦٩، وفي صحيح الترغيب والترهيب ١/٥٨٨.
وقد قرر المحققون من أهل العلم أنه مع هذه الحرمة العظيمة لرمضان، فإن السيئات لا تضاعف أعدادها في رمضان بل المضاعفة خاصة بالحسنات في رمضان وفي غيره، وما ورد في بعض الأحاديث من مضاعفة السيئات في رمضان فلا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سأبين لاحقاً. وقد نصت آيات الكتاب الكريم على أن جزاء السيئة سيئة مثلها فقط، قال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} سورة الأنعام الآية ١٦٠. وقال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سورة القصص الآية ٨٤. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} سورة يونس الآية ٢٧. وقال الله تعالى: {مَنْ عَملَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} سورة غافر الآية ٤٠. وقال الله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} سورة الشورى الآية ٤٠.
وثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة) رواه البخاري ومسلم، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي عند شرحه للحديث [النوع الثاني عمل السيئات: فتكتب السيئة بمثلها من غير مضاعفة كما قال الله تعالى {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} وقوله (كتبت له سيئة واحدة) إشارة إلى أنها غير مضاعفة كما خرج في حديث آخر، لكن السيئة تعظم أحياناً بشرف الزمان أو المكان كما قال تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} ، في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرماً وعظَّم حرمتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة في هذه الآية: اعلموا أن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً فيما سوى ذلك، وإن كان الظلم في كل حال غير طائل، ولكن الله تعالى يعظم من أمره ما يشاء تعالى ربنا. وقد روي في حديثين مرفوعين أن السيئات تضاعف في رمضان ولكن إسنادهما لا يصح] جامع العلوم والحكم ص ٤٣٨- ٤٣٩.
وما أشار إليه الحافظ ابن رجب الحنبلي من مضاعفة السيئات في رمضان هو ما رواه الطبراني وابن عدي عن أم هانئ رضي الله عنها، وابن عدي وابن صصري في أماليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن أمتي لن تخزى ما أقاموا صيام شهر رمضان، قيل: يا رسول الله؟ وما خزيهم في إضاعة شهر رمضان؟ قال: انتهاك المحارم فيه، من زنى فيه، أو شرب خمراً فيه لعنه الله ومن في السموات إلى مثله من الحول، فإن مات قبل أن يدرك رمضان فليست له عند الله حسنة يتقي بها النار. فاتقوا الله في شهر رمضان، فإن الحسنات تضاعف فيه ما لا تضاعف فيما سواه، وكذلك السيئات) وهذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي، وممن ضعَّف الحديث السابق أيضاً ابن الجوزي حيث قال: هذا حديث لا يصح كما في العلل المتناهية ٣/٥٣٧.
إذا تقرر هذا فإن العلماء متفقون على أن الحسنات تضاعف كما قال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} سورة الأنعام الآية ١٦٠. وقال تعالى {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} سورة البقرة الآية ٢٤٥ وغير ذلك من الآيات. وتزداد مضاعفة الحسنات في مواسم الخير كرمضان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له، يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) رواه مسلم. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث: [ ... المراد بقوله (وأنا أجزي به) أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته. وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس. قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا السياق الرواية الأخرى يعني رواية الموطأ، وكذلك رواية الأعمش عن أبي صالح حيث قال: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله - قال الله - إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) أي أجازي عليه جزاءً كثيراً من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} انتهى. والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال ... ] فتح الباري ٤/١٣٩. وكذلك تضاعف الحسنات في الأمكنة الفاضلة كالحرمين والمسجد الأقصى المبارك، فقد ورد في الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة) رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات وفي بعضهم كلام وهو حديث حسن كما قال الهيثمي مجمع الزوائد ٤/٧، ورواه البزار وقال إسناده حسن، الترغيب والترهيب ٢/١٧٥.
وقال المحققون من أهل العلم بأن مضاعفة السيئات لا تكون في كمياتها وأعدادها ولكن تكون في كيفيتها فتكون السيئة مغلظة في الأزمنة الفاضلة وفي الأمكنة الفاضلة، فمن يعص الله عز وجل في رمضان وفي الأشهر الحرم فذنبه مغلظ، وكذا من يعص الله في المسجد الحرام، فذنبه مغلظ، قال العلامة ابن القيم: [ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه – أي المسجد الحرام - لا كمياتها، فإن السيئة جزاؤها سيئة لكن سيئة كبيرة، وجزاؤها مثلها، وصغيرة جزاؤها مثلها، فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه، فهذا فص النزاع في تضعيف السيئات والله أعلم] زاد المعاد ١/٥١.
وقال الشيخ ابن حجر المكي [ينبغي حمل مضاعفة السيئات على مقابلها دون الزيادة على كميتها، لقوله تعالى: {فلا يجزى إلا مثلها} وكذا يقال بمثل ذلك السيئات في حرم مكة. وقول مجاهد وغيره رحمهم الله تعالى بمضاعفتها فيه، إن أرادوا به ما ذكر كان قريباً، أو زيادة كميتها على مائة ألف في مقابلة السيئة الواحدة كالحسنة، كان بعيداً من ظواهر نصوص الكتاب والسنة.] إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام ص٥٢.
وخلاصة الأمر أن شهر رمضان المبارك موسم للطاعات ولفعل الخيرات، وعلى المسلم أن يحرص على طاعة ربه عز وجل وأن يبتعد عن المعاصي والآثام، لأن حرمة رمضان عظيمة، ومن يعص الله عز وجل في رمضان فذنبه مغلظ، وأن الحسنات تضاعف في رمضان وغير رمضان، وأما السيئات فلا تضاعف لا في رمضان ولا في غير رمضان ولكنها في رمضان تغلظ، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.