[١٣ - أحاديث العقل باطلة]
يقول السائل: إنه سمع على قناة الجزيرة في برنامج الشريعة والحياة شيخاً ذكر الحديث التالي (لما خلق الله العقل قال له: قم، فقام، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: اقعد، فقعد، فقال: ما خلقت خلقاً هو خير منك، ولا أفضل منك، ولا أحسن منك، ولا أكرم منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أعرف، لك الثواب، وعليك العقاب) وقال إنه حديث صحيح، فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أفيدونا؟
الجواب: هذا الحديث مشهور عند أهل العلم بحديث العقل، وقد تكلم علماء الحديث على هذا الحديث وعلى غيره من الأحاديث الواردة في العقل وفضله، وقرروا أنها أحاديث باطلة موضوعة مكذوبة لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر ابن الجوزي في كتابه الموضوعات هذا الحديث وقال: [هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] ثم نقل عن الإمام أحمد قوله في هذا الحديث: [هذا الحديث موضوع ليس له أصل] الموضوعات ١/١٧١. وقال ابن الجوزي أيضاً [رويت في العقول أحاديث كثيرة ليس فيها شيء يثبت] الموضوعات ١/١٧١. وذكر السيوطي عدة روايات لهذا الحديث وبين اتفاق العلماء على أنها موضوعة، اللآليء المصنوعة ١/١٢٩. وقال العلامة ابن القيم [أحاديث العقل كلها كذب كقوله (لما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال ما خلقت خلقاً أكرم عليَّ منك، بك آخذ، وبك أعطي) ، وحديث (لكل شيء معدن ومعدن التقوى قلوب العاقلين) ، وحديث (إن الرجل ليكون من أهل الصلاة والجهاد وما يجزى إلا على قدر عقله) ، قال الخطيب حدثنا الصوري: قال سمعت الحافظ عبد الغني بن سعيد يقول: قال الدارقطني: إن كتاب العقل وضعة أربعة أولهم ميسرة بن عبد ربه ثم سرقه منه داود بن المحبر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء فركبه بأسانيد أخر ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي فأتى بأسانيد أخر، وقال أبو الفتح الأزدي لا يصح في العقل حديث قاله أبو جعفر العقيلي وأبو حاتم بن حبان والله أعلم] المنار المنيف ص ٦٦.
وقال الحافظ شمس الدين السخاوي: [حديث «إن الله لما خلق العقل قال له: أقبل، فأقبل ثم قال له أدبر، فأدبر، فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أشرف منك، فبك آخذ، وبك أعطي) قال ابن تيمية وتبعه غيره: إنه كذب موضوع باتفاق ... ثم ذكر رواية أخرى للحديث ثم قال: وأخرجه داود بن المحبر في كتاب العقل له حدثنا صالح المري عن الحسن به بزيادة «ولا أكرم علي منك، لأني بك أعرف، وبك أعبد» والباقي مثله، وفي الكتاب المشار إليه لداود من هذا النمط أشياء منها: أول ما خلق الله العقل، وذكره. وابن المحبر كذاب] المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة ص ١١٨.
وقد تكلم العلامة الألباني على أحاديث العقل تحت أول حديث ذكره في سلسلة الأحاديث الضعيفة فقال: [الدين هو العقل, ومن لا دين له لا عقل له) ، باطل. أخرجه النسائي في " الكنى " وعنه الدولابي في " الكنى والأسماء " (٢ / ١٠٤) عن أبي مالك بشر بن غالب بن بشر بن غالب عن الزهري عن مجمع بن جارية عن عمه مرفوعاً دون الجملة الأولى " الدين هو العقل " وقال النسائي: هذا حديث باطل منكر. قلت – أي الألباني -: وآفته بشر هذا فإنه مجهول كما قال الأزدي, وأقره الذهبي في " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " والعسقلاني في " لسان الميزان ". وقد أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن داود بن المحبر بضعاً وثلاثين حديثاً في فضل العقل, قال الحافظ ابن حجر: كلها موضوعة, ومنها هذا الحديث كما ذكره السيوطي في " ذيل اللآليء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة " (ص ٤ - ١٠) ونقله عنه العلامة محمد طاهر الفتني الهندي في " تذكرة الموضوعات " (ص ٢٩ - ٣٠) . وداود بن المحبر قال الذهبي: صاحب " العقل " وليته لم يصنفه, قال أحمد: كان لا يدري ما الحديث , وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث غير ثقة, وقال الدارقطني: متروك, وروى عبد الغنى بن سعيد عنه قال: كتاب " العقل " وضعه ميسرة بن عبد ربه ثم سرقه منه داود بن المحبر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة ,وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء , ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي. ومما يحسن التنبيه عليه أن كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح منها شيء, وهي تدور بين الضعف والوضع, وقد تتبعت ما أورده منها أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه " العقل وفضله " فوجدتها كما ذكرت لا يصح منها شيء, فالعجب من مصححه - أي مصحح كتاب " العقل وفضله " وهو - الشيخ محمد زاهد الكوثري كيف سكت عنها ?! بل أشار في ترجمته للمؤلف (ص ٤) إلى خلاف ما يقتضيه التحقيق العلمي عفا الله عنا وعنه. وقد قال العلامة ابن القيم في " المنار " (ص ٢٥) : أحاديث العقل كلها كذب.] . سلسلة الأحاديث الضعيفة ١/١٣.
إذا تقرر بطلان الأحاديث الواردة في فضل العقل، فلا بد أن يعلم أن دين الإسلام قد حث على التفكير والنظر وورد في ذلك آيات كثيرة منها قوله تعالى {ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينزل من السماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} سورة الروم الآية ٢٤. وقال تعالى {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون} سورة البقرة الآية ٢٤٢. وقال تعالى {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} سورة العنكبوت الآية ٤٣. وقال تعالى {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} سورة الملك الآية ١٠. وقال تعالى {انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون} سورة الأنعام الآية ٦٥. وقال تعالى {قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} سورة الأنعام الآية ٥٠. وقال تعالى {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} سورة محمّد الآية ٢٤. وغير ذلك من الآيات. والعقل من نعم الله عز وجل على الإنسان التي ميزه بها على غيره من المخلوقات، وعقل الإنسان له حدود لا يصح أن يتجاوزها، قال أبو القاسم الأصبهاني: [العقل نوعان: عقلٌ أُعين بالتوفيق، وعقلٌ كِيدَ بالخذلان، فالذي أعين بالتوفيق يدعو صاحبه إلى موافقة الأمر المفترض بالطاعة، والانقياد لحكمه، والتسليم به، والعقل الذي كيد يطلب بِتَعَمُّقِه الوصول إلى علم ما استأثر الله بعلمه وحجب أسرار الخلق عن فهمه، حكمةً منه بالغة.] وينبغي أن يعلم أن تقديس العقل وإنزاله في غير منزلته الصحيحة أمر مرفوض شرعاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والداعون إلى تمجيد العقل إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنم سموه عقلاً، وما كان العقل وحده كافياً في الهداية والإرشاد، وإلا لما أرسل الله الرسل] موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ١/٢١. كما ينبغي التنبيه على أن شريعة الإسلام لا تعارض العقل السليم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، فالعقلاء متفقون على أن العقل الصريح لا يخالف نقلاً صحيحاً] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ٣/٣٣٨.
وقال العلامة ابن القيم [كيف ينقدح في ذهن المؤمن أن في نصوص الوحي المنزلة من عند الله عز وجل ما يخالف العقول السليمة؟! بل كيف ينفك العقل الصريح عن ملازمة النص الصحيح؟! بل هما أخوان لا يفترقان، وصل الله بينهما في كتابه، وإذا تعارض النقل وهذه العقول أخذنا بالنقل الصحيح، ورُمي بهذه العقول تحت الأقدام، وحُطَّت حيث حطها الله وأصحابها، فكيف يُظن أن شريعة الله الكاملة، ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها، أو إلى قياس أو معقول خارج عنها، ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعد محمد صلى الله عليه وسلم] الصواعق المرسلة ٢/ ٤٥٨ ـ ٤٥٩.
وقال الإمام الشاطبي: [العقل لا يُجعل حاكماً بإطلاق، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع، بل الواجب أن يقدم ما حقه التقديم – وهو الشرع - ويؤخر ما حقه التأخير - وهو نظر العقل - لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكماً على الكامل؛ لأنه خلاف المعقول والمنقول] الاعتصام ٢/٣٢٦. وبناءً على ما سبق فإن العقل لا مدخل له في أمور العقيدة والغيبات وكذا الأحكام التعبدية كصلاة المغرب ثلاثاً والعشاء أربعاً ونحو ذلك، قال العلامة ابن خلدون: [العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به التوحيد والآخرة وحقائق النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال] مقدمة ابن خلدون ص٣٦٤. وقال أبو المظفر السمعاني: [واعلم: أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الإتباع والمأثور تبعاً للمعقول، وأما أهل السنة، قالوا: الأصل في الدين الإتباع، والمعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي، وعن الأنبياء، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء، ولو كان الدين بني على المعقول لجاز للمؤمنين أن لا يقبلوا شيئاً حتى يعقلوا] الحجة في بيان المحجة ١/٣٢٠. وانظر للتوسع: التيار العقلي لدى المعتزلة وأثره في حياة المسلمين المعاصرة للدكتور. سهل بن رفاع العتيبي، والاتجاهات العقلانية الحديثة، للدكتور ناصر العقل، وموقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، للأمين الصادق الأمين.
وخلاصة الأمر أن أحاديث العقل مكذوبة لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.