للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٣٧ - تغير الأحكام الشرعية]

لا أثر للبيئة في تغير الأحكام الشرعية الثابتة بالنصوص، يقول السائل: إنه قرأ مقالاً يذكر فيه كاتبه أن الإمام الشافعي رحمه الله كان له مذهب فقهي في العراق ولمّا سافر إلى مصر كان له مذهب آخر وأن الشافعي غيَّر مذهبه الأول بسبب اختلاف البيئتين والمجتمعين العراقي والمصري. فما قولكم في ذلك؟

الجواب: الإمام الشافعي ثالث الأئمة الأربعة ومدوّن علم أصول الفقه في كتابه العظيم " الرسالة " وصاحب كتاب " الأم " في الفقه. هذا الإمام العظيم قال عنه تلميذه الإمام أحمد: [كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن فهل ترى لهذين من خَلَفٍ أو عنهما من عوض] . وقال فيه الإمام الحافظ المحدّث عبد الرحمن بن مهدي: [لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني لأنني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح فإني لأكثر الدعاء له ما ظننت أن الله خلق مثل هذا الرجل] . وقد أثنى عليه العلماء المتقدمون والمتأخرون وهو أهل لذلك. انظر الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر ص ٥. ومن المعلوم أن فقه الإمام الشافعي مرّ بعدة مراحل أثناء حياة الإمام ومن المشهور أن الشافعي له مذهبان قديم وجديد أما القديم فكان في العراق وأما الجديد فكان في مصر ومن هنا جاءت المقولة المشهورة بين طلبة العلم أن الشافعي قد غيَّر مذهبه عندما سكن مصر ونريد أن ندقق في هذه القضية ونسأل هل فعلاً أن الإمام الشافعي غيَّر مذهبه؟ وما مدى هذا التغيير؟ الحقيقة أنه ليس صحيحاً أن الإمام الشافعي غير مذهبه القديم وألغاه تماماً ثم وضع مذهباً جديداً في مصر وخاصة أن فترة إقامته في مصر كانت قصيرة حيث إن إقامته لم تزد على أربع سنوات وهذه مدة لا تكفي لتغيير المذهب جملة وتفصيلاً. إن الفترة التي عاشها الشافعي في مصر جاءت بعد أن نضجت آراؤه وتكامل اجتهاده فأخذ يمحص آرائه السابقة ويعيد النظر فيها ودرس فيها أصوله التي بنى أقواله عليها ناقداً لها فاحصاً كاشفاً فهذا الإمام الذي كان يتسامى فلا يترك قولاً من غير نقد ولا تمحيص وكشف لمحاسنه ومساويه، وقربه من السنة أو بعده عنها قد أخذ أيضاً يدرس آراء نفسه هذه الدراسة الناقدة الفاحصة الكاشفة. ثم هو يدون ما انتهى إليه من دراسته فيدون رسالته ويكتب مسائل كثيرة له أو يملي أخرى ويروي عنه أصحابه جملة آرائه في تلك الفترة وينقلون خلافاته مع غيره من الفقهاء. انظر كتاب " الإمام الشافعي حياته وعصره – آراؤه وفقهه " للشيخ محمد أبو زهرة ص ١٢٩. وفي مدة إقامت في مصر أعاد كتابة رسالته في الأصول كتابة جديدة زاد فيها وحذف منها وأبقى لب رسالته القديمة ودرس آراءه في الفروع فعدل عن بعضها إلى جديد لم يقله وكان له بذلك قديم قد رجع عنه وجديد قد اهتدى إليه وقد يتردد بين الجديد والقديم فيذكر الرأيين من غير أن يرجع عن أولهما. المرجع السابق ص ١٢٨. وليس صحيحاً أنه بدّل جميع أقواله أو أكثرها وإنما بدّل بعضها وليس عليه في ذلك جناح فالعالم المجتهد المتجرد لطلب الحق يدور مع الحق حيث دار ومن الطبيعي لإمام مثل الشافعي له ذكاؤه وعقله وفهمه وله الثروة الضخمة من الأدلة وأقوال الصحابة ومن بعدهم وفتاوى العلماء وأدلة أولئك وهؤلاء – أن يقارن ويوازن ويهمل رأياً كان يراه ويعود إلى رأي لم يكن يراه أو يأتي برأي جديد. وليس الشافعي في هذا بدعاً من المجتهدين فالأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم كثيراً ما رأوا رأياً فثبت لديهم غيره بالأثر أو النظر فرجعوا عن الأول وكثيراً ما ينقل رواة المذهب روايتين أو أكثر في مسألة واحدة عن إمامهم. الإمام الشافعي / عبد الغني الدقر ص ١٥٣-١٥٤. إن الإمام الشافعي كما سبق في بداية الجواب هو أول من دوّن علم أصول الفقه فهو رأس هذا العلم ومعلوم أن علم أصول الفقه هو العلم الذي يبين فيه قواعد وضوابط استنباط الأحكام الشرعية أي الفقه فالشافعي أعلم العلماء في قواعد الاستنباط وأصول الاجتهاد وقد بين الأصول التي بنى عليها مذهبه وليس من هذه الأصول تغير المجتمعات أو البيئات فأصول مذهب الشافعي الجديد هي: ١. الكتاب والسنة. ٢. الإجماع فيما ليس فيه نص كتاب أو سنة. ٣. قول الصحابي الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة. ٤. التخير من أقوال الصحابة عند اختلافهم. ٥. القياس على ما سبق. ونلاحظ أن اختلاف البيئات أو المجتمعات ليس من أصول الشافعي ولا من أصول أحد من أئمة الإسلام فأصول الأحكام الشرعية ثابتة لا تقبل التغيير ولا التبديل. كما لو أننا لو ألقينا نظرة سريعة على بعض المسائل التي اختلف فيها اجتهاد الإمام الشافعي وغير رأيه فيها فكان له فيها قولان قديم وجديد لرأينا يقيناً أن لا علاقة لتغير البيئات والمجتمعات بها وسأورد ثلاث مسائل من التي اختلف فيها اجتهاد الشافعي فكان له فيها مذهبان: المسألة الأولى: قال الإمام الشافعي في القديم: لا يُسن قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة. وقال في الجديد: يستحب قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة. المجموع ٣/٣٨٦ وفرائد الفوائد ص ٦١. المسألة الثانية: قضاء الصوم عن الميت قال في القديم: يصوم عنه وليه. وقال في الجديد: لا يصوم عنه وليه. الأشباه والنظائر للسيوطي ص ٨١٣ والمجموع ٦/٣٦٨. المسألة الثالثة: اشترط الإمام الشافعي في الركاز الذي يجب فيه الخمس أن يبلغ نصاباً وهذا قوله في الجديد أما في القديم فلم يشترط ذلك. المجموع ٦/٧٧. ونلاحظ أنه لا أثر لاختلاف البيئة والمجتمع في اختلاف قولي الإمام الشافعي القديم والجديد في هذه المسائل. وإنما يرجع سبب اختلاف قولي الإمام الشافعي في هذه المسائل إلى الأدلة الشرعية في كل منها. ففي المسألة الأولى لماّ ثبت عند الإمام الشافعي حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال به وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة وكان يسمعنا الآية أحياناً وكان يطيل في الأولى ما لا يطيل في الثانية وكان يقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب) رواه البخاري ومسلم. وفي المسألة الثانية احتج الشافعي بما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين) . وحجة القديم بصحة صوم الولي عنه حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) وقد نقل عن الشافعي أنه قال: قد روي في ذلك خبر فإن صح قلت به. المجموع ٦/٣٦٨-٣٦٩. وفي المسألة الثالثة: استدل الشافعي لعدم اشتراط بلوغ النصاب في الركاز بعموم الحديث (وفي الركاز الخمس) حيث لم يحدد فيه نصاب. وفي الجديد اشترط النصاب اعتماداً على أن الركاز مال مستفاد من الأرض فاختص بما تجب فيه الزكاة قدراً أو نوعاً كالمعدن. مغني المحتاج ٢/١٠٣. وهكذا يمكن أن يقال في جميع المسائل التي رجع فيها الشافعي عن قوله القديم وقال بالقول الجديد لأن المجتهد يرجع عن قول اجتهد فيه بناءاً على الدليل. فمن المعلوم عند أهل العلم أن تغيير الفتوى في المسألة الواحدة من العالم الواحد لا بدّ له من سبب صحيح فإذا بنى المجتهد فتواه على اجتهاد ثم بلغه حديث نبوي لم يكن قد سمع به من قبل والفتوى تعارضه يلزمه العدول فوراً عن قوله إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم. وأخيراً ينبغي التنبيه على أن الفقهاء والعلماء قد قرروا أن الأحكام الاجتهادية التي تبنى على العرف والمصلحة يمكن أن تتغير بتغير الأزمنة نظراً لاختلاف الأعراف من زمان إلى زمان وأما الأحكام المنصوص عليها فهذه ثابتة لا يمكن أن يدخلها التغيير والتبديل. قال العلامة ابن عابدين: [كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو لفساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة الإسلامية المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لهذا نرى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً من قواعد مذهبه] المدخل الفقهي العام ٢/٩٨٣. وقال علي حيدر شارح المجلة: (إن الأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام المستندة على العرف والعادة لأنه بتغير الأزمان تتغير احتياجات الناس وبناءً على هذا التغير يتبدل أيضاً العرف والعادة وبتغير العرف والعادة تتغير الأحكام حسبما أوضحنا آنفاً بخلاف الأحكام المستندة إلى الأدلة الشرعية التي لم تبن على العرف والعادة فإنها لا تتغير ...) درر الحكام ١/٤٧. وقال الشيخ مصطفى الزرقا: [وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية أي التي قررها الاجتهاد بناءاً على القياس أو على دواعي المصلحة وهي المقصودة بالقاعدة الآنفة الذكر. أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة الناهية كحرمة المحرمات المطلقة وكوجوب التراضي في العقود ... إلى غير ذلك من الأحكام والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان] المدخل الفقهي العام ٢/٩٣٤-٩٣٥. وبعد هذا البيان يظهر لنا جليا أن القول بأن الإمام الشافعي غير مذهبه لما حلَّ في مصر نظراً لاختلاف البيئة والمجتمع قول باطل يؤدي إلى نقض أصول الشريعة والتلاعب بها والإمام الشافعي ذلك الأصولي العظيم مبرؤ مما ينسب إليه. *****

<<  <  ج: ص:  >  >>