للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٢٧ - رضاع الكبير]

يقول السائل: ما قولكم في الفتوى المتعلقة برضاع الكبير والتي صدرت عن أحد مشايخ الأزهر، أفيدونا؟

الجواب: ينبغي أن يعلم أن مسألة رضاع الكبير من المسائل التي يدور حولها الخلاف قديماً وحديثاً فمنذ عهد الصحابة وجد الخلاف فيها وكذا اختلف فيها الفقهاء وتعددت الآراء فيها وما زال الخلاف قائماً حتى عصرنا الحاضر وهذا الأمر ليس بمستغرب، ولكن الأمر المستهجن هو طريقة طرح هذه المسألة من بعض المشايخ وطريقة تناول وسائل الإعلام لها، فبعض القنوات الفضائية عرضت المسألة بشكل جنسي مثير واتخذها بعض الكتاب مدخلاً للطعن في السنة النبوية والطعن في السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها توصلاً للقدح في دين الإسلام.

ولا بد أن أقرر أن الحديث الوارد في رضاع الكبير حديث صحيح ثابت، فقد رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم من أهل الحديث وأسوق روايته كما وردت في سنن أبي داود (عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم سلمة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنى سالماً وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو مولى لامرأة من الأنصار كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث ميراثه حتى أنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك {ادعوهم لآبائهم إلى قوله فإخوانكم في الدين ومواليكم} فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم له أب كان مولىً وأخاً في الدين فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري وهي امرأة أبي حذيفة فقالت يا رسول الله: إنا كنا نرى سالماً ولداً وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلى - أي منكشف بعضها - وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة فبذلك كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيراً خمس رضعات ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس حتى يرضع في المهد وقلن لعائشة والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس)

قال الإمام الشوكاني: [هذا الحديث قد رواه من الصحابة أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل وهي من المهاجرات وزينب بنت أم سلمة وهي ربيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورواه من التابعين القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وحميد بن نافع ورواه عن هؤلاء الزهري وابن أبي مليكة وعبد الرحمن بن القاسم ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة ثم رواه عن هؤلاء أيوب السختياني وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة ومالك وابن جريج وشعيب ويونس وجعفر بن ربيعة ومعمر وسليمان بن بلال وغيرهم، وهؤلاء هم أئمة الحديث المرجوع إليهم في أعصارهم، ثم رواه عنهم الجم الغفير والعدد الكثير، وقد قال بعض أهل العلم: إن هذه السنة بلغت طرقها نصاب التواتر وقد استدل بذلك من قال إن إرضاع الكبير يثبت به التحريم] نيل الأوطار ٧/١١٩. فالحديث ثابت لا شك فيه، ولكن أهل العلم اختلفوا في توجيهه، وأكثر العلماء على أن الحديث حادثة خاصة ولا يصح حملها على العموم

فالرضاع المؤثر ما كان في الصغر. ويدل على ذلك قوله تعالى: {والوالدات يُرضِعنَ أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يُتمّ الرضاعة} سورة البقرة الآية ٢٣٣. يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: [هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة؛ وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك] . تفسير ابن كثير ١/٥٦٧.

وثبت في الحديث أن عائشة رضي الله عنها قالت دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي رجل قال يا عائشة من هذا قلت أخي من الرضاعة قال يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة) رواه البخاري

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: قوله (فإنما الرضاعة من المجاعة) فيه تعليل الباعث على إمعان النظر والفكر , لأن الرضاعة تثبت النسب وتجعل الرضيع محرماً. وقوله " من المجاعة " أي الرضاعة التي تثبت بها الحرمة وتحل بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلاً لسد اللبن جوعته , لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن وينبت بذلك لحمه فيصير كجزء من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها , فكأنه قال لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة أو المطعمة من المجاعة] فتح الباري ٩ / ١٤٨.

وروى الترمذي بإسناده عن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي – أي في زمن الرضاع - وكان قبل الفطام) قال أبو عيسى – أي الترمذي - هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئا) سنن الترمذي ٣/٤٥٨-٤٥٩.

وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: (لا رضاع إلا ما شدَّ العظم، وأنبت اللحم) . ونقل الإمام الشافعي في كتابه الأم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: إنما الرضاع رضاع الصغير. وغير ذلك من الأدلة.

وقال العلامة محمد العثيمين: [من الشروط أيضاً عند جمهور أهل العلم أن يكون الرضاع في زمنه أي في الزمن الذي يتغذى فيه الطفل بالرضاع أما إذا تجاوز ذلك الزمن بأن فطم ولم يكن مرتكزاً في رضاعه على اللبن فإن تأثير اللبن في حقه غير واقع، لا يؤثر وقد ذهب بعض العلماء إلى أن رضاع الكبير محرم لعموم قوله تعالى (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة أبي حذيفة بالنسبة لمولي أبي حذيفة سالم قال أرضعيه تحرمي عليه وكان كبيراً يخدمهم واستدل بعض العلماء بهذا على أن رضاع الكبير مؤثر ومحرم لكن الجمهور على خلاف ذلك وأنه لا يؤثر ولا يحرم واختار شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله التفصيل وقال إذا دعت الحاجة إلى إرضاع الكبير وأرضع ثبت التحريم وإلا إذا لم يكن ثم حاجة لم يثبت. ولكن الراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن الخلوة بالنساء قالوا يا رسول الله أرأيت الحمو قال الحمو الموت محذراً من خلوة قريب الزوج لزوجته ولو كان الرضاع موجباً لتحريم الخلوة لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لدعاء الحاجة لبيانه لقال مثلاً إذا كان للزوج أخ وهو معهم في السكن فهو محتاج إلى أن يخلو بزوجته، ولو كان ثمة علاج لهذه الحالة الواقعية التي يحتاج الناس إليها لقال الرسول عليه الصلاة والسلام ترضعه وتنتهي المشكلة، فلما لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع دعاء الحاجة إليه في هذا الأمر العظيم دل هذا على أن لا أثر في رضاع الكبير وهذا هو الراجح وأنه ينبغي تجنب إرضاع الكبير مهما كانت الظروف حتى لا يقع في مشاكل.] موقع الشيخ على الإنترنت

وفي كلام الشيخ العثيمين أبلغ ردٍ على ما ورد في الفتوى المذكورة لحل مشكلة الاختلاط حسب ما زعمه ذلك المفتي الذي زعم أن إرضاع الكبير يضع حلاً لمشكلة الخلوة!!! وفي الحقيقة إن إثارة هذا النوع من الفتاوى بهذه الطريقة إنما هو عبث وتلاعب بالأحكام الشرعية، وقد فتحت هذه الفتوى باب شر على المسلمين ومن أراد أن يتعرف على شيء من ذلك فليقرأ ما كتب عن هذه الفتوى على شبكة الإنترنت. ولا بد من التنبيه أخيراً أن صاحب الفتوى المذكورة قد رجع عن فتواه وأنه رجع إلى قول جمهور الفقهاء أن الرضاع المحرم ما كان في الصغر. والرجوع إلى الحق فضيلة.

وخلاصة الأمر أن الصحيح من أقوال أهل العلم أن الرضاع المؤثر ما كان في الصغر. والفتوى المذكورة لم تأخذ بعين الاعتبار الأسس العلمية التي تبنى عليها الفتاوى كما قررها الفقهاء والأصوليون، وينبغي على المفتين والعلماء والخطباء عدم إثارة مثل هذه المسائل التي تشوش على عامة الناس.

<<  <  ج: ص:  >  >>