يقول السائل: إنه سمع بعض المدرسين يطعن في الفقهاء، ويصفهم بأنهم علماء الحيض والنفاس، لأنهم يتكلمون في مسائل الحيض والنفاس ومسائل الطهارة والصلاة والزكاة ونحوها، ويهملون على زعمه مسائل مهمة تتعلق بالحكم والسياسة، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا شك لدي بأن قائل هذا الكلام جاهلٌ متغطرس، لا يعرف منزلة العلم ولا العلماء، ولا يعرف شيئاً عن جهود العلماء والفقهاء في نشر العلم وتبيانه للناس وأكبر دليلٍ على ذلك كتب العلماء التي خلفوها، وهي ناطقة بصدق حالهم، وأنهم أخذوا الإسلام جملةً واحدة، فما قصروه على جانب واحد من جوانبه، فإذا استعرضت أي كتاب من كتب فقهائنا وعلمائنا لوجدتها تتحدث عن الأحكام الشرعية في جميع أبواب الفقه، وليست مقصورة على أحكام الحيض والنفاس، كما زعم القائل. إن هذا التطاول على العلماء والفقهاء حرامٌ شرعاً، وإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يدينون الله سبحانه وتعالى باحترام العلماء الهداة ولا بد أن نعرف لعلمائنا فضلهم. ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء فالتطاول على العلماء والفقهاء وإيذاؤهم حرامٌ شرعاً، ويودي بالمتطاول المؤذي للعلماء، وقد قال بعض أهل العلم:" أعراض العلماء على حفرةٍ من حفر جهنم " وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: " من آذى فقيهاً، فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد آذى الله عز وجل ". ويضاف لما سبق، أن المتطاول ما عرف مكانة أحكام الحيض والنفاس في الفقه الإسلامي، وأهميتها وكثرة الأحكام المترتبة على معرفة أحكام الحيض والنفاس. فقد قال الإمام النووي يرحمه الله:((إعلم أن باب الحيض من عويص الأبواب ومما غلط فيه كثيرون من الكبار لدقة مسائله واعتنى به المحققون وأفردوه بالتصنيف في كتب مستقلة. وأفرد أبو الفرج الدارمي من أئمة العراقيين مسألة المتحيرة في مجلد ضخم ليس فيه إلا مسألة المتحيرة وما يتعلق بها، وأتى فيه بنفائس لم يُسبق إليها، وحقق أشياء مهمة من أحكامها، وقد اختصرت أنا مقاصده في كراريس، وسأذكر في هذا الشرح ما يليق به منها إن شاء الله. وجمع إمام الحرمين في النهاية في باب الحيض نحو نصف مجلد وقال بعد مسائل الصفرة والكدرة: لا ينبغي للناظر في أحكام الإستحاضة أن يضجر من تكرير الصور وإعادتها في الأبواب. وبسط أصحابنا رحمهم الله مسائل الحيض أبلغ بسط وأوضحوه كامل إيضاح واعتنوا بتفاريعه أشد اعتناء وبالغوا في تقريب مسائله بتكثير الأمثلة وتكرير الأحكام، وكنت جمعت في الحيض في شرح المهذب مجلداً كبيراً مشتملاً على نفائس، ثم رأيت الآن اختصاره والإتيان بمقاصده، ومقصودي بما نبهت عليه، ألا يضجر مطالعه بإطالته فإني أحرص إن شاء الله على ألا أطيله إلا بمهمات وقواعد مطلوبات وما ينشرح به قلب من به طلب مليح وقصد صحيح، ولا ألتفت إلى كراهة ذوي المهانة والبطالة، فإن مسائل الحيض يكثر الإحتياج إليها لعموم وقوعها وقد رأيت ما لا يحصى من المرات من يسأل من الرجال والنساء عن مسائل دقيقة وقعت فيه، لا يهتدي إلى الجواب الصحيح فيها، إلا أفراد من الحذاق المعتنين بباب الحيض، ومعلوم أن الحيض من الأمور العامة المتكررة ويترتب عليه ما لا يحصى من الأحكام، كالطهارة والصلاة والقراءة، والصوم والإعتكاف والحج، والبلوغ والوطء، والطلاق والخلع والإيلاء، وكفارة القتل وغيرها والعدة والإستبراء، وغير ذلك من الأحكام، فيجب الإعتناء بما هذه حاله، وقد قال الدارمي في كتاب المتحيرة: الحيض كتاب ضائع لم يصنف فيه تصنيف يقوم بحقه ويشفي القلب، وأنا أرجو من فضل الله تعالى أن ما أجمعه في هذا الشرح يقوم بحقه أكمل قيام وإنه لا تقع مسألة إلا وتوجد فيه نصاً أو استنباطاً، لكن قد يخفى موضعها على من لا تكمل مطالعته وبالله التوفيق)) المجموع ٢/٣٤٤ - ٣٤٥. وقال العلاّمة البركوي:" فقد اتفق الفقهاء على فرضية علم الحال على كل من آمن بالله واليوم الآخر من نسوة ورجال. فمعرفة أحكام الدماء المختصة بالنساء واجبة عليهن، وعلى الأزواج والأولياء ولكن هذا العلم كان في زماننا مهجوراً، بل صار كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، لا يفرقون بين الحيض والنفاس والإستحاضة....". ونقل ابن عابدين عن ابن نجيم قال:" واعلم أن باب الحيض من غوامض الأبواب خصوصاً المتحيرة وتفاريعها، ولهذا اعتنى به المحققون. وأفرده محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة رحمه الله في كتاب مستقل ومعرفة مسائله من أعظم المهمات، لما يترتب عليها مما لا يحصى من الأحكام، كالطهارة والصلاة وقراءة القرآن والصوم والاعتكاف والحج والبلوغ والوطء والطلاق والعدة والإستبراء، وغير ذلك من الأحكام، وكان من أعظم الواجبات لأن عظم منزلة العلم بالشيء بحسب منزلة ضرر الجهل به، وضرر الجهل بمسائل الحيض أشد من ضرر الجهل بغيرها، فيجب الاعتناء بمعرفتها وإن كان الكلام فيها طويلاً، فإن المحصل يتشوف إلى ذلك ولا التفات إلى كراهة أهل البطالة " انظر الرسالة الرابعة من مجموعة رسائل ابن عابدين المسماة منهل الواردين من بحار الفيض، على ذخر المتأهلين في مسائل الحيض ص٦٩ - ٧٠. وأخيراً، فإن على طلبة العلم أن يتأدبوا مع العلماء، ويعرفوا للعلماء مكانتهم وفضلهم:(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ) سورة الزمر /٩. وقال تعالى:(يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) سورة المجادلة ١١ قال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله: " اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة النور /٦٣. *****