[٢١ - بطلان دعوى أن السلفية أقرب للعلمانية منها للإسلام]
يقول السائل: ما قولكم فيما قاله مفتي الديار المصرية الدكتور علي جمعة بأن السلفية المتشددة أقرب إلى العلمانية منها إلى الإسلام، وأن الفكر السلفي المنغلق هو الوجه الآخر للفكر العلماني، أفيدونا؟
الجواب: مقالة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية بحق السلفية وربطها بالعلمانية مقالة ظالمة لا تقوم على أي أساس علمي لهذا الربط، ولا بد أن نعرف حقيقة العلمانية وحقيقة الدعوة السلفية حتى نرى مدى الخطأ الذي وقع فيه المفتي بهذه المقارنة الظالمة، [فالعلمانية SECULARISM وترجمتها الصحيحة: اللادينية أو الدنيوية، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين. وتعني في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم SCIENCE وقد ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر، وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر، وانتقلت بشكل أساسي إلى مصر وتركيا وإيران ولبنان وسوريا ثم تونس ولحقتها العراق في نهاية القرن التاسع عشر. أما بقية الدول العربية فقد انتقلت إليها في القرن العشرين، وقد اختيرت كلمة علمانية لأنها أقل إثارة من كلمة لا دينية. ومدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع وإبقاءه حبيساً في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه، فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما. تتفق العلمانية مع الديانة النصرانية في فصل الدين عن الدولة حيث لقيصر سلطة الدولة ولله سلطة الكنيسة. وهذا واضح فيما يُنسب إلى السيد المسيح عليه السلام من قوله:"أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". أما الإسلام فلا يعرف هذه الثنائية والمسلم كله لله وحياته كلها لله {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} سورة الأنعام الآية ١٦٢. ومن أهم أفكار ومعتقدات العلمانية ما يلي: بعض العلمانيين ينكرون وجود الله أصلاً. وبعضهم يؤمنون بوجود الله لكنهم يعتقدون بعدم وجود أية علاقة بين الله وبين حياة الإنسان. إقامة حاجز سميك بين عالمي الروح والمادة، والقيم الروحية لديهم قيم سلبية. فصل الدين عن السياسة وإقامة الحياة على أساس مادي. اعتماد مبدأ الميكيافيلية في فلسفة الحكم والسياسة والأخلاق. نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية وتهديم كيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الإجتماعية. ومن معتقدات العلمانية في العالم الإسلامي والعربي التي انتشرت بفضل الاستعمار والتبشير ما يلي: الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة. الزعم بأن الإسلام استنفذ أغراضه، وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية. الزعم بأن الفقه الإسلامي مأخوذ عن القانون الروماني. الزعم بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف. الدعوة إلى تحرير المرأة وفق الأسلوب الغربي. تشويه الحضارة الإسلامية وتضخيم حجم الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي والزعم بأنها حركات إصلاح. الدعوة إلى إحياء الحضارات القديمة. اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية عن الغرب ومحاكاته فيها. تربية الأجيال تربية لا دينية. وغير ذلك من الأفكار المنحرفة، فالعلمانية دعوة إلى إقامة الحياة على أسس العلم الوضعي والعقل بعيداً عن الدين الذي يتم فصله عن الدولة وحياة المجتمع وحبسه في ضمير الفرد ولا يصرح بالتعبير عنه إلاَّ في أضيق الحدود.] الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة.
وأما السلفية فهي اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان كالأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ومن سار على دربهم واستن بسنتهم قديماً وحديثاً، والسلفية ليست حزباً ولا جماعة، ولا يظنن أحدٌ أن مفهوم السلفية مختص ببعض الجماعات الموجودة الآن، والتي تسمي نفسها بالسلفية، أو مقصور على بعض الأشخاص الذين يلحقون بأسمائهم كلمة (السلفي) ؟!! وإنما هي دعوة ومنهج لفهم الإسلام والتلقي عن الله عز وجل عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهم النصوص الشرعية كما فهمها الصحابة والسلف الصالح، ويقوم منهج السلفية على أسس بينة واضحة في العقيدة والسلوك، فإتباع السلف الصالح ليس محصوراً في العقيدة فقط كما يتوهم بعض المتوهمين، بل إنه اتباع في العقيدة والعمل، فالسلفية عقيدة وعمل. وتقوم السلفية على منهج أهل السنة والجماعة في فهم الدليل والبناء عليه وتدعو إلى الرجوع في الأمور المتنازع فيها إلى كتاب الله والسنة النبوية، كما قال سبحانه وتعالى:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} سورة النساء الآية ٥٩. وفي الحقيقة فإن المقام لا يتسع لمزيد من التفصيل، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن السلفية المعاصرة التي ادَّعاها أناس نصَّبوا أنفسهم أوصياء على الدعوة السلفية، فصاروا يقررون هذا سلفي وهذا غير سلفي، وصاروا يوالون ويعادون على مسائل فقهية فرعية، ولا شك أن هؤلاء قد أساؤوا إساءاتٍ بالغة للدعوة السلفية، يقول الشيخ العلامة محمد العثيمين: [السلفية: هي اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم هم الذين سلفونا وتقدموا علينا، فاتباعهم هو السلفية. وأما اتخاذ السلفية كمنهج خاص ينفرد به الإنسان ويضلل من خالفه من المسلمين ولو كانوا على حق، واتخاذ السلفية كمنهجٍ حزبي فلا شك أن هذا خلاف السلفية، فالسلف كلهم يدعون إلى الاتفاق والالتئام حول سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يضللون من خالفهم عن تأويل، اللهم إلا في العقائد، فإنهم يرون أن من خالفهم فيها فهو ضال، أما في المسائل العملية فإنهم يخففون فيها كثيراً. لكن بعض من انتهج السلفية في عصرنا هذا صار يضلل كل من خالفه ولو كان الحق معه، واتخذها بعضهم منهجاً حزبياً كمنهج الأحزاب الأخرى التي تنتسب إلى دين الإسلام، وهذا هو الذي يُنكر ولا يمكن إقراره، ويقال: انظروا إلى مذهب السلف الصالح ماذا كانوا يفعلون! انظروا طريقتهم، وفي سعة صدورهم في الخلاف الذي يُسوغ فيه الاجتهاد، حتى إنهم كانوا يختلفون في مسائل كبيرة، وفي مسائل عقدية، وعملية، فتجد بعضهم مثلاً يُنكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وبعضهم يقول: بلى، وترى بعضهم يقول: إن التي توزن يوم القيامة هي الأعمال، وبعضهم يرى أن صحائف الأعمال هي التي توزن، وتراهم أيضاً في مسائل الفقه يختلفون كثيراً، في النكاح، والفرائض، والبيوع، وغيرها، ومع ذلك لا يضلل بعضهم بعضاً. فالسلفية بمعنى أن تكون حزباً خاصاً له مميزاته ويضلل أفراده من سواهم فهؤلاء ليسوا من السلفية في شيء. وأما السلفية اتباع منهج السلف عقيدة وقولاً وعملاً وائتلافاً واختلافاً واتفاقاً وتراحماً وتواداً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) فهذه هي السلفية الحقة.] نقلاً عن لقاءات الباب المفتوح.
إذا تقرر هذا فأعود لما قاله الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية، ونسأله كيف تقارن بين من يدعو إلى كتاب الله عز وجل وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وبين من يدعو إلى اللادينية؟! وكيف تربط بين من ينادي بفصل الدين عن الحياة، ومن يدعو إلى إقامة الحياة على الكتاب والسنة؟! وكيف تربط بين من ينشر الإباحية والفوضى الأخلاقية ويهدم الأسرة، وبين من يدعو إلى الفضيلة والعفة والطهارة وإقامة الأسرة على أسس شرعية مستمدة من الكتاب والسنة؟! ومن أغرب ما قاله الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية أنه يحكم على السلفية من خلال بعض ممارسات من ينتسبون للسلفية فقال:[السلفي المتشدد يريد الخصوصية، يريد أن تتركه في حاله، يلبس كما يشاء ويصلي كما يشاء منعزلاً في مسجده. ولذلك تجد هذه السلفية التدميرية تبني برنامجاً كثير الجزئيات حتى يعيش فيه الإنسان بعيداً عن ممارسة الحياة، إذن فالسلفية تقبلها العلمانية؛ ولذلك رأينا العلمانية وهي تبارك السلفية إلى أن لُدغت منها في المصالح، ولكن الفكر السلفي هو الوجه الآخر للفكر العلماني وهو لا يدري] وفات الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية أن الميزان الذي وضعه لجماعته المتصوفة لم يستعمله مع خصومه عندما قال: [لأن التصوف يقع حالياً ضحية ما بين الأعداء والأدعياء، وكل منهما يضر بمفهوم التصوف الصحيح. التصوف علم، له أركانه، له أدلته، له ممارسته العملية عبر القرون، مشيد بالكتاب والسنة كما قال أبو التصوف الإمام الجنيد] ، فالسلفية أولى وأحرى بهذا الوصف - تقوم على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم -من التصوف، والسلفية الصحيحة لها أيضاً أدعياء كثر أساؤوا لها وأضروا بحقيقتها وقزموها وجعلوها تهتم ببعض جوانب الدين وتهمل بقيته.
وخلاصة الأمر أن ما قاله الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية من مقارنة بين السلفية والعلمانية وأن الفكر السلفي المنغلق هو الوجه الآخر للفكر العلماني، فيه ظلم واضح للسلفية، وهي في الحقيقة طريقة أهل السنة والجماعة، واتباع لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم. ويبدو أن المفتي قد حكم على السلفية من خلال بعض مظاهر المنتسبين للسلفية، وهذا قصورٌ كبير، فليس هكذا تحسم الأمور والقضايا المهمة في حياة الأمة.
أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل