يقول السائل: كنا في أحد المجالس وكان هنالك شخص يمازح الآخرين ويذكر بعض النكت التي تتضمن الاستخفاف بالأمور الشرعية كالاستخفاف بمعرفة الله سبحانه وتعالى والاستخفاف بالجنة فما حكم ذلك؟
الجواب: المزاح مفتاح من مفاتيح الشر كما هو معلوم لأنه قد يؤدي إلى مفاسد كثيرة ولكن الإنسان لا يستغني عن شيء من المزاح فلذا وضع العلماء له ضوابط معينة حتى يكون المزاح جائزاً فلذلك قال العلماء: لا بأس بالمزاح إذا راعى المازح فيه الحق وتحرى الصدق فيما يقوله في مزاحه وتحاشى عن فحش القول. الموسوعة الفقهية ٣٧/٤٣. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمزح فمن ذلك ما ورد في الحديث عن الحسن قال:(إن امرأة عجوزاً جاءته تقول: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز. وانزعجت المرأة وبكت ظناً منها أنها لن تدخل الجنة فلما رأى ذلك منها، بين لها غرضه: أن العجوز لن تدخل الجنة عجوزاً بل ينشئها الله خلقاً آخر فتدخلها شابة بكراً ... ) رواه الترمذي في الشمائل وقال الشيخ الألباني حديث حسن. مختصر الشمائل المحمدية ص ١٢٨، غاية المرام ٢١٥. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(قالوا: يا رسول الله! إنك تداعبنا. قال: نعم غير أني لا أقول إلا حقاً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه الشيخ الألباني في مختصر الشمائل المحمدية ص ١٢٦، وفي السلسلة الصحيحة ٤/٣٠٤. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه:(أن رجلاً استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي سأله أن يحمله على دابه - فقال صلى الله عليه وسلم: إني حاملك على ولد ناقة. فقال الرجل: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق) رواه الترمذي في الشمائل وابن حبان وأحمد وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح على شرط الشيخين. مختصر الشمائل المحمدية ص ١٢٧. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه:(أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا ذا الأذنين - يعني يمازحه -) رواه الترمذي في الشمائل وأبو داود وصححه الشيخ الألباني، مختصر الشمائل ص ١٢٤. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أيضاً:(أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه وكان دميماً فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصر قال: أرسلني، من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من يشتري العبد. فقال: يا رسول الله إذاً والله تجدني كاسداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ولكن عند الله لست بكاسد - أو قال: لكن عند الله غال) رواه الترمذي في الشمائل وأحمد وصححه الحافظ ابن حجر والألباني. مختصر الشمائل المحمدية ص ١٢٧. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:(كان ابن لأم سليم يقال له أبو عمير، كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما مازحه إذا جاء فدخل يوماً يمازحه فوجده حزيناً فقال: ما لي أرى أبا عمير حزيناً؟ فقالوا: يا رسول الله مات نغره الذي كان يلعب به. فجعل يناديه صلى الله عليه وسلم: يا أبا عمير ما فعل النغير) رواه البخاري. وغير ذلك من الأحاديث. ولكن المزاح قد يخرج عن الإباحة إلى التحريم إذا اشتمل المزاح على سخرية واستهزاء فيحرم شرعاً المزاح الذي يشتمل على تحقير مسلم أو استخفاف به، يقول الله تعالى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) سورة الحجرات الآية ١١. وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) رواه مسلم. ولا يجوز أن يشتمل المزاح على اللمز والتنابز بالألقاب لقوله تعالى:(وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) سورة الحجرات الآية ١١. ولا يجوز أن يشتمل المزاح على ترويع المسلم وإخافته لما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً) رواه أبو داود وأحمد والطبراني وصححه الشيخ الألباني في غاية المرام ص ٢٥٧. وقال صلى الله عليه وسلم:(لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً ومن أخذ عصا أخيه فليردها) رواه أبو داود والترمذي وأحمد وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. صحيح سنن أبي داود ٣/٩٤٤. وكذلك لا يجوز أن يشتمل المزاح على الكذب من أجل أن يضحك الناس لما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له! ويل له) رواه أبو داود والترمذي وأحمد وحسّنه الألباني في صحيح سنن الترمذي ٢/٢٦٨. فالحديث نص صريح مؤكد على حرمة اختلاق أفعال وأقوال ذريعة لإضحاك الناس. قال المناوي في الحكمة من تكرار الويل في الحديث:[كرره إيذاناً بشدة هلكته، وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان ويورث الرعونة كان أقبح القبائح ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة] فيض القدير ٦/٣٦٩. والحكمة من هذا المنع أنه يجرّ إلى وضع أكاذيب ملفقة على أشخاص معينين يؤذيهم الحديث عنهم كما أنه يعطي ملكة التدرب على اصطناع الكذب وإشاعته فيختلط في المجتمع الحقّ بالباطل والباطل بالحقّ ومن هذا المنطلق حرّم الإسلام الكذب على وجه العموم وتوعّد المتخلق به عاقبة سوء فقد جاء في الحديث عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) رواه البخاري ومسلم] قضايا اللهو والترفيه بين الحاجة النفسية والضوابط الشرعية ص ٢١٠-٢١١. هذا بالنسبة للمزاح وأما اشتمال النكات والمزاح على الاستخفاف بالأمور الشرعية فهذا حرام شرعاً وقد يكون في بعض الحالات كفراً مخرجاً من الملة والعياذ بالله. فالاستخفاف بالله سبحانه وتعالى كوصف الله سبحانه وتعالى بما لا يليق فهذا كفر صريح مخرج من الملة والعياذ بالله كوصف الله سبحانه وتعالى بالإجرام عند وفاة شخص عزيز على الإنسان فهذا كفر لا شك فيه. وقد اتفق العلماء على أن الاستخفاف بالله تعالى بالقول أو الفعل أو الاعتقاد حرام وفاعله مرتد عن الإسلام سواء أكان مازحاً أم جاداً. الموسوعة الفقهية ٣/٢٤٩. ويدل على ذلك قوله تعالى:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) سورة التوبة الآية ٦٥. وكذلك الاستخفاف بالعقيدة الإسلامية بشكل عام كالاستخفاف والاستهزاء بالملائكة والأنبياء والمرسلين، قال تعالى:(إن الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) سورة الأحزاب الآية ٥٧. ومن ذلك الاستخفاف بالجنة والاستهزاء بما أعده الله من جزاء للطائعين فيها كمن يستهزئ بما أعده الله لعباده الصالحين من الحور العين وغير ذلك فهذا حرام قطعاً. ومثله الاستخفاف والاستهزاء بالأحكام الشرعية ومثله الاستهزاء والاستخفاف بالصحابة رضوان الله عليهم. ?????