يقول السائل: إنه سمع أحد العلماء على إحدى القنوات الفضائية يذكر أن الصلاة الوسطى المذكورة في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) أنها صلاة الجمعة لما لها من فضائل وأن المسلم يتهيأ لها ويتطيب ويلبس أجمل ثيابه ونحو ذلك فما قولكم فيما قال؟
الجواب: لقد أمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات جميعاً والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه فينبغي للمسلم أن يحافظ على أداء الصلوات في أوقاتها بجميع أركانها وشروطها وسننها وآدابها وخص الصلاة الوسطى بالذكر لأهميتها وفضلها والوسطى تأنيث الأوسط ووسط الشيء خيره وأعدله. انظر تفسير القرطبي ٣/٢٠٨-٢٠٩. وقد اختلف أهل العلم على أقوال عديدة في المراد بالصلاة الوسطى المذكورة في قوله تعالى:(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) سورة البقرة الآية ٢٣٨. وأرجح الأقوال وأصحها أنها صلاة العصر ويدل على هذا ما يلي: عن علي ? أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: (حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ملأ الله قبورهم وبيوتهم أو أجوافهم ناراً) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم عن علي ? قال:(لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله: ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس) . وفي رواية أخرى لمسلم:(شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً ثم صلاها بين العشائين بين المغرب والعشاء) . وعن عبد الله بن مسعود ? قال:(حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول الله: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً أو قال: حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً) رواه مسلم. وروى الترمذي بإسناده عن عبد الله بن مسعود ? قال:(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الوسطى صلاة العصر) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى الترمذي أيضاً عن الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(صلاة الوسطى صلاة العصر) . وقال الترمذي: [وفي الباب عن علي وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعائشة وحفصة وأبي هريرة وأبي هاشم بن عتبة، قال أبو عيسى - الترمذي - قال محمد - هو البخاري - قال علي بن عبد الله حديث الحسن عن سمرة بن جندب حديث صحيح وقد سمع منه. وقال أبو عيسى الترمذي:(حديث سمرة في صلاة الوسطى حديث حسن وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم) سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي ١/٤٥٦. وعن علي ? قال كنا نراها الفجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي صلاة العصر يعني صلاة الوسطى. رواه أحمد وسنه جيد. الفتح الرباني ٢/٢٦١. وعن عبيدة السلماني قال كنا نرى أن صلاة الوسطى صلاة الصبح قال فحدثنا علي ? أنهم يوم الأحزاب اقتتلوا وحبسونا عن صلاة العصر فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم املأ قبورهم نارا أو املأ بطونهم نارا كما حبسونا عن صلاة الوسطى قال فعرفنا يومئذ أن صلاة الوسطى صلاة العصر. رواه أحمد وعن البراء بن عازب قال نزلت هذه الآية (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) فقرأناها ما شاء الله أن نقرأها ثم نسخها الله فنزلت (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) فقال رجل كان جالساً عند شقيق له: هي إذن صلاة العصر فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله تعالى والله أعلم. رواه مسلم. وغير ذلك من الأدلة. وقد اختار هذا القول جماعة من أهل العلم. قال الإمام النووي:[اختلف العلماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم في الصلاة الوسطى المذكورة في القرآن فقال جماعة: هي العصر ممن نقل هذا عنه علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبو أيوب وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعبيدة السلماني والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك والكلبي ومقاتل وأبو حنيفة وأحمد وداود وابن المنذر وغيرهم رضي الله عنهم. قال الترمذي: هو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم رضي الله عنهم. وقال الماوردي من أصحابنا: هذا مذهب الشافعي رحمه الله لصحة الأحاديث فيه، قال وإنما نص على أنها الصبح لأنه لم تبلغه الأحاديث الصحيحة في العصر ومذهبه اتباع الحديث] شرح النووي على صحيح مسلم ٢/٢٦٨.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[وصلاة العصر هي الصلاة الوسطى في قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم منهم علي بن أبي طالب وأبو هريرة وأبو أيوب وأبو سعيد وعبيدة السلماني والحسن والضحاك وأبو حنيفة وأصحابه] المغني ١/٢٧٤. وقال المرداوي:[قوله عن العصر وهي الوسطى هو المذهب نص عليه الإمام أحمد وقطع به الأصحاب ولا أعلم عنه خلافاً ولا فيه خلافاً] الإنصاف ١/٤٣٢. وقد عدد الحافظ ابن حجر أقوال العلماء في المسألة وأوصلها إلى عشرين قولاً وذكر القول الثالث أنها العصر فقال:[قول علي بن أبي طالب فقد روى الترمذي والنسائي من طريق زر بن حبيش قال: قلنا لعبيدة سل علياً عن الصلاة الوسطى فسأله فقال: كنا نرى أنها الصبح حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر.. انتهى، وهذه الرواية تدفع دعوى من زعم أن قوله صلاة العصر مدرج من تفسير بعض الرواة وهي نص في أن كونها العصر من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأن شبهة من قال إنها الصبح قوية لكن كونها العصر هو المعتمد وبه قال ابن مسعود وأبو هريرة وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة وقول أحمد والذي صار إليه معظم الشافعية لصحة الحديث فيه، قال الترمذي هو قول أكثر علماء الصحابة. وقال الماوردي هو قول جمهور التابعين وقال ابن عبد البر هو قول أكثر أهل الأثر وبه قال من المالكية ابن حبيب وابن العربي وابن عطية ويؤيده أيضاً ما روى مسلم عن البراء بن عازب قال نزل حافظوا على الصلوات وصلاة العصر فقرأناها ما شاء الله ثم نسخت فنزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فقال رجل فهي إذن صلاة العصر. فقال أخبرتك كيف نزلت] فتح الباري ٩/٢٦٢. ثم قال الحافظ: [وأقوى شبهة لمن زعم أنها غير العصر مع صحة الحديث حديث البراء الذي ذكرته عند مسلم فإنه يشعر بأنها أبهمت بعدما عينت كذا قاله القرطبي قال: وصار إلى أنها أبهمت جماعة من العلماء المتأخرين قال وهو الصحيح لتعارض الأدلة وعسر الترجيح. - قال الحافظ -وفي دعوى أنها أبهمت ثم عينت من حديث البراء نظر بل فيه أنها عينت ثم وصفت ولهذا قال الرجل فهي إذن العصر ولم ينكر عليه البراء. نعم جواب البراء يشعر بالتوقف لما نظر فيه من الاحتمال وهذا لا يدفع التصريح بها في حديث علي. ومن حجتهم أيضاً ما روى مسلم وأحمد من طريق أبي يونس عن عائشة أنها أمرته أن يكتب لها مصحفاً فلما بلغت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى قال فأملت علي وصلاة العصر قالت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى مالك عن عمرو بن رافع قال: قال كنت أكتب مصحفاً لحفصة فقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني فأملت علي حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر.... ثم ذكر الحافظ عدة روايات لهذا الحديث ثم قال: فتمسك قوم بأن العطف يقتضي المغايرة فتكون صلاة العصر غير الوسطى. وأجيب بأن حديث علي ومن وافقه أصح إسناداً وأصرح وبأن حديث عائشة قد عورض برواية عروة أنه كان في مصحفها وهي العصر فيحتمل أن تكون الواو زائدة ويؤيده ما رواه أبو عبيد بإسناد صحيح عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر بغير واو أو هي عاطفة لكن عطف صفة لا عطف ذات وبأن قوله والصلاة الوسطى والعصر لم يقرأ بها أحد ولعل أصل ذلك ما في حديث البراء أنها نزلت أولاً والعصر ثم نزلت ثانياً بدلها والصلاة الوسطى فجمع الراوي بينهما ومع وجود الاحتمال لا ينهض الاستدلال فكيف يكون مقدماً على النص الصريح بأنها صلاة العصر؟ قال شيخ شيوخنا الحافظ صلاح الدين العلائي: حاصل أدلة من قال أنها غير العصر يرجع إلى ثلاثة أنواع: أحدها تنصيص بعض الصحابة وهو معارض بمثله ممن قال منهم إنها العصر ويترجح قول العصر بالنص الصريح المرفوع وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على غيره فتبقى حجة المرفوع قائمة. ثانيها معارضة المرفوع بورود التأكيد على فعل غيرها كالحث على المواظبة على الصبح والعشاء ... وهو معارض بما هو أقوى منه وهو الوعيد الشديد الوارد في ترك صلاة العصر ... ثالثها ما جاء عن عائشة وحفصة من قراءة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر فإن العطف يقتضي المغايرة وهذا يرد عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد وهو ممتنع وكونه ينزل منزلة خبر الواحد مختلف فيه. سلمنا لكن لا يصلح معارضاً للمنصوص صريحا وأيضاً فليس العطف صريحاً في اقتضاء المغايرة لوروده في نسق الصفات كقوله تعالى:(الأول والآخر والظاهر والباطن) ] فتح الباري ٩/٢٦٣-٢٦٤. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:[فقد ثبت بالنصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة الوسطى هي العصر وهذا أمر لا يشك فيه من عرف الأحاديث المأثورة ولهذا اتفق على ذلك علماء الحديث وغيرهم وإن كان للصحابة والعلماء في ذلك مقالات متعددة فإنهم تكلموا بحسب اجتهادهم] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ٢٣/١٠٦. وقد رجح هذا القول الإمام ابن دقيق العيد وقال هذا هو القول الصحيح في المسألة كما في إحكام الأحكام شرح عمدة الحكام ١/١٧١. وقال الشوكاني:[وهو المذهب الحق الذي يتعين المصير إليه ولا يرتاب في صحته من أنصف من نفسه واطرح التقليد والعصبية وجوًّد النظر إلى الأدلة] نيل الأوطار ١/٢٦٤. وخلاصة الأمر أن ما قاله الشيخ المذكور بأن الصلاة الوسطى هي الجمعة قول ضعيف ليس معه دليل كما أنه مخالف للأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة.