يقول السائل: هنالك عدة أصناف من الناس يتحدثون ويكتبون في الأمور الشرعية فمنهم حملة الشهادات الشرعية ومنهم الموظفون الرسميون في الوظائف الدينية ومنهم المثقفون الذين ثقفوا أنفسهم بأنفسهم وجميع هؤلاء يتكلمون في قضايا الدين وقد يفتي بعضهم في المسائل الشرعية، فمن يجوز له أن يتكلم في أمور الدين من هؤلاء؟
الجواب: كثر في زماننا المتسورون على العلم الشرعي والمتصدون له من غير أن يكونوا أهلاً لذلك وهذه سيئة من سيئات الواقع المرير الذي تعيشه الأمة الإسلامية في هذا العصر والأوان، ولعل انتشار وسائل الإعلام العصرية قد أسهم في ذلك وأذكر مثالاً واحداً على ذلك وهو أن محطات التلفزة العربية والمحلية كثرت بشكل واضح، ومن ضمن الديكورات التي تقدمها تخصيص برامج دينية للإجابة على المسائل المختلفة وهذه المحطات تستضيف أصنافاً من المنتسبين للعلم الشرعي للإجابة على أسئلة المشاهدين وهؤلاء المشايخ منهم من هو أهل للإفتاء والحديث في العلم الشرعي بلا ريب ومنهم من ليس كذلك، فبعض محطات التلفزيون المحلية تستضيف مشايخ ليتحدثوا في أمور الدين وهم ليسوا أهلاً لذلك فتصدر منهم أخطاء بشعة وتقول على دين الله وخاصة إذا كان الحديث على الهواء مباشرة وكانت الأسئلة في موضوعات مختلفة فيخبطون خبط عشواء. ويظن كثير من الناس أن إطلاق لقب شيخ على شخص ما يكفي ليكون فقيهاً ومفتياً كما ويظن آخرون أنه إذا حصل أحد المشايخ على شهادة جامعية عليا كانت أو دنيا فهذا مؤهل كاف للفتوى في دين الله كما يظن آخرون أن أئمة المساجد هم أهل الفتوى. ويظن آخرون أنه إذا قرأ كتاباً من الكتب الشرعية فإنه قد صار شافعي زمانه، وهكذا. وأود أن أنبه أننا نعيش في عصر اعتبر فيه الاختصاص شيئاً أساسياً فالاختصاص معتبر في جميع نواحي الحياة تقريباً. فمثلاً يشترط في أعضاء هيئة التدريس في الجامعات أن يكون الواحد منهم متخصصاً في العلم الذي يدرّسه وكذلك يشترط الاختصاص في الطب وفروعه المتعددة وكذلك يشترط الاختصاص في الحرف والمهن وغيرها. بل إن الاختصاص تطور وصار هنالك في العلم الواحد تخصصات كثيرة وقد يكون المتخصص في أحد فروع العلم المعاصر عامياً في فرع آخر من فروع ذلك العلم. وإذا كان الاختصاص له كل هذا الاعتبار في مجتمعنا فلماذا لا يعتبر في العلوم الشرعية؟ إن العلم الشرعي بحر لا ساحل له وفرو العلم الشرعي عديدة كعلوم القرآن وعلوم الحديث والفقه وأصول الفقه والعقيدة وغيرها ونحن في هذا الزمان كدنا نفقد ذلك العالم الموسوعي الذي يحيط بمعظم العلوم الشرعية فنحن نقرأ في كتب التراجم في وصف عالم من علمائنا المتقدمين أنه كان مفسراً محدثاً فقيهاً عالماً بالأصلين ... الخ. وهذا في زماننا صار نادراً بل إن كثيراً من حملة الشهادات في العلوم الشرعية لا يكادون يتقنون تخصصهم الذي كانت معظم دراستهم فيه فضلاً أن يتقنوا تخصصاً آخر من التخصصات الشرعية. وبناء على ذلك أقول: إنه لا يكفي أن يتعرض للفتوى في دين الله من ليس له صلة بالفقه والأصول وإن كان قد درس التفسير أو علوم القرآن أو الحديث أو السياسة الشرعية وكذلك فإن كثيراً من الموظفين الرسميين في الوظائف الدينية ليسوا أهلاً للإفتاء في دين الله وإن لبسوا لباس العلماء. وكذلك المثقفون بالثقافة الدينية الذين قرأوا الكتب بأنفسهم أو على أقرانهم فهؤلاء لا يوثق بعلمهم لأن العلم الشرعي لا بد فيه من التلقي على أيدي العلماء والشيوخ ولا يكفي أخذه من الكتب أو أن يأخذه طالب علم عن طالب علم مثله بل الصحيح أن يأخذه طالب العلم عن شيخه، قال الإمام الشافعي:[من تفقه من الكتب ضيع الأحكام] مقدمة المجموع للنووي ٢/٣٨. وقال الإمام النووي:[قالوا ولا تأخذ العلم ممن كان أخذه له من بطون الكتب من غير قراءة على شيوخ أو شيخ حاذق فمن لم يأخذه إلا من الكتب يقع في التصحيف ويكثر منه الغلط والتحريف] مقدمة المجموع للنووي ١/٣٦. وقديماً قالوا:[من كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابَه] . ويضاف إلى ذلك أن من المشاهد في الذين يثقفون أنفسهم بأنفسهم أو يتثقفون على أقرانهم أنه يغلب عليهم الغرور والكبر فيتيهون على الناس لأنهم لم يجالسوا العلماء ولم يتأدبوا بأدبهم. وقد ذكر العلماء كثيراً من الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يفتون ويوقعون عن رب العالمين. فمن ذلك أن يكون عالماً بالكتاب والسنة بشكل عام وبآيات وأحاديث الأحكام على وجه الخصوص فلابد أن يعرف وجوه دلالات النصوص على الأحكام وأن يعرف أسباب نزول الآيات وأسباب ورود الحديث لما لذلك من فائدة عظيمة في معرفة المقصود بالنصوص الشرعية وإن كان الراجح عند الأصوليين أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولابد من معرفة الناسخ والمنسوخ في الكتاب والسنة ولا بد من معرفة ما يتعلق بعلم أصول الحديث، فلا بد أن يكون ممن له تمييز بين الصحيح والحسن والضعيف من الأحاديث ولا بد أن يكون عارفاً بمسائل الإجماع حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه ولابد من معرفة اللغة العربية معرفة تيسر له فهم لغة العرب ليفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فهما عربيان. ومما لا بد من معرفته والتمكن منه علم أصول الفقه فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه كما قال الإمام الشوكاني في إرشاد الفحول ص ٢٥٢. وقال العلامة الدكتور يوسف القرضاوي:[وقد رأينا عجباً ممن يقحمون أنفسهم في ميدان الاجتهاد والفتوى وهم لم يتقنوا علم الأصول بل أحياناً دون أن يقرأوا كتاباً واحداً فيه فكثيراً ما يستدلون بالمطلق وينسون المقيد ويحتجون بالعام ويهملون الخاص ويأخذون بالقياس ويغفلون النص أو يقيسون على غير أصل أو يقيسون مع عدم وجود علة مشتركة أو مع وجود فارق معتبر بين الفرع المقيس والأصل المقيس عليه] الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص ٢٦. ولا بد من معرفة مقاصد الشرع الحكيم ولا بد من معرفة اختلاف الفقهاء، قال قتادة:[من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه] وقال غيره: [من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه] . وقال الإمام أحمد:[ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدم وإلا فلا يفتي] وقال عطاء: [لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالماً باختلاف الناس فإن لم يكن كذلك ردَّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه] ، وقال سعيد بن أبي عروبة:[من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالماً] . وقال سفيان بن عيينة [أجسر الناس على الفتوى أقلهم علماً باختلاف العلماء] الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص ٣٦. وفوق كل ذلك لا بد أن يكون هؤلاء المتصدين للفتوى وبيان الأحكام الشرعية من أهل التقوى والورع الذين يخافون الله سبحانه وتعالى ولا يبيعون آخرتهم بدنياهم أو بدنيا غيرهم. فقد ورد في الحديث عن علي بن أبي طالب قال:(قلت يا رسول الله: إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي فما تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: شاوروا فيه الفقهاء والعابدين ولا تمضوا فيه رأي خاصة) رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثقون من أهل الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد ١/١٧٨. وروى الدارمي في سننه عن أبي سلمة الحمصي أن النبي صلى الله عليه وسلم:(سئل عن الأمر يحدث ليس في كتاب ولا سنة؟ فقال: ينظر فيه العابدون من المؤمنين) ورجاله رجال الصحيح، انظر شرح الدارمي ٢/٦٥. وما أحسن ما قاله الإمام أحمد بن حنبل [لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن تكون له نية فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة. والثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته. والرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس. والخامسة: معرفة الناس] قال العلامة ابن القيم معلقاً على كلام الإمام أحمد: [وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحله من العلم والمعرفة فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شىء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه] . ثم شرح ابن القيم عبارة الإمام أحمد وأذكر بعض كلامه:[فأما النية فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يبنى فإنها روح العمل وقائده وسائقه والعمل تابع لها يبنى عليها يصح بصحتها ويفسد بفسادها ... وقد جرت عادة الله التي لا تبدل وسنته التي لا تحول أن يُلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغضاء ما هو اللائق به فالمخلص له المهابة والمحبة وللآخر المقت والبغضاء. وأما قوله أن يكون له حلم ووقار وسكينة فليس صاحب العلم والفتيا إلى شيء أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار فإنها كسوة علمه وجماله وإذا فقدها كان علمه كالبدن العاري من اللباس وقال بعض السلف: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم] إعلام الموقعين ٤/١٩٩ فما بعدها. ?????