يقول السائل: هل القول المشهور بين الناس " الدين المعاملة " حديث نبوي، أفيدونا؟
الجواب: جملة " الدين المعاملة " ليست حديثاً نبوياً، وإنما هي عبارة متداولة على ألسنة الناس، وذكر العلامة الألباني هذه العبارة في مقدمة المجلد الخامس من سلسة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأفاد بأنه لا أصل لها في السنة النبوية، سلسلة الأحاديث الضعيفة ٥/١١. ومع أن عبارة " الدين المعاملة " ليست حديثاً نبوياً فهي صحيحة المعنى، حيث إن الدين الإسلامي لا يقتصر على الأعمال الظاهرة كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، بل لا بد أن يكون لهذه الأعمال آثار طيبة تظهر في سلوك المسلم في جوانب حياته كلها، يقول الله تعالى في شأن الصلاة:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، فالصلاة ليست مجرد حركات تؤدى، وإنما لا بد أن تنهى المصلي عن الفواحش والمنكرات. ويقول الله تعالى في شأن الزكاة:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} . فالزكاة ليست مجرد مبلغ من المال يدفعه الإنسان كما يدفع الضرائب، بل هي وسيلة لتطهير النفس وتزكيتها، ويقول الله عز وجل في شأن الصيام:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}"ولعل" في لغة العرب تفيد الترجي، فالذي يرجى من الصوم تحقق التقوى، أي أن الصوم سبب من أسباب التقوى. وبناء على ذلك فليس الصوم هو مجرد الامتناع عن المفطرات الثلاث الطعام والشراب والشهوة فحسب، بل لا بد من صوم الجوارح أيضاً، فاليد لا بد أن تكف عن أذى الناس، والعين لا بد أن تكف عن النظر إلى المحرمات، والأذن لا بد أن تكف عن السماع للمحرمات، واللسان لا بد أن يكف عن المحرمات كالغيبة والنميمة والكذب ونحوها، والرِجل لا بد أن تكف عن المحرمات فلا تمشي إلى ما حرم الله. وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري. وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سآبَّك أحدٌ أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم) رواه ابن خزيمة والحاكم وصححه العلامة الألباني. وقال تعالى في شأن الحج:{فَلا رَفَثَ وَلا فُُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فالحج تربية للمسلم على التطهر والتخلص من سوء الأخلاق والبعد عن شهوات النفس، وهذا الكلام ينطبق على أحكام الإسلام الأخرى التي يجب أن تنعكس إيجاباً في سلوكنا وتصرفاتنا، ولكن إذا نظرنا في واقع كثيرٍ من المسلمين اليوم لوجدنا هذه المعاني مفقودة أو تكاد، وأذكر في هذا المقام أربعة أمثلة فقط على الانفصال ما بين العمل وأثره المرتجى شرعاً: المثال الأول: تعامل كثير من الناس في الطريق والشارع العام، فقد جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إياكم والجلوس على الطرقات. فقالوا: ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها. قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى وردُّ السلام وأمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر) رواه البخاري. وقد دلت النصوص على أن إزالة الأذى من طرقات الناس تعتبر صدقةً، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(تميط الأذى عن الطريق صدقة) رواه البخاري. وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخذه فشكر الله له فغفر له) رواه البخاري ومسلم. وإزالة الأذى من طرقات الناس إحدى مراتب الإيمان كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان) رواه مسلم. وعن أبي برزة رضي الله عنه قال:(قلت يا نبي الله علمني شيئاً أنتفع به قال: اعزل الأذى عن طريق المسلمين) رواه مسلم. قال الإمام النووي:[هذه الأحاديث المذكورة في الباب ظاهرة في فضل إزالة الأذى عن الطريق سواء كان الأذى شجرة تؤذي أو غصن شوكة أو حجراً يعثر به أو قذراً أو جيفة أو غير ذلك] شرح النووي على صحيح مسلم ٦/١٣١. وما ذكره الإمام النووي من أنواع الأذى المادية التي كانت معروفة في زمانه قد يكون يسيراً مع أنواع الأذى الموجودة في زماننا مثل التعدي على الطرق، وإساءة استخدامها وخاصة من السائقين، فمن المعروف أن القيادة فنٌ وذوقٌ وأخلاقٌ كما يقولون، وكثير من سائقي زماننا ليس عندهم فنٌ ولا ذوقٌ ولا أخلاق. المثال الثاني التعامل مع الجيران: وردت نصوص كثيرة في الإحسان إلى الجار وأذكر حديثاً واحداً فقط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) رواه البخاري. فهذا النهي الوارد في الحديث يعم كل أذىً فلا يجوز إلحاق الأذى بالجار سواء أكان الأذى مادياً أو معنوياً. ولكن انظر إلى واقع تعامل كثيرٍ من الناس مع جيرانهم، فماذا ترى؟ الجواب لديك أيها القارئ!! المثال الثالث التعامل داخل الأسرة، فمن المعلوم أن الحياة الزوجية في الإسلام تقوم على المودة والمحبة والتفاهم بين الزوجين قال تعالى:{وَمِنْءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الروم الآية ٢١. إن الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقة الزوجية هو المودة والرحمة وتعني عطف قلوبهم بعضهم على بعض وقال بعض أهل التفسير: المودة المحبة والرحمة الشفقة وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [المودة حب الرجل امرأته والرحمة رحمته إياها أن يصيبها سوء] تفسير القرطبي ١٤/١٧. ويجب على كل من الزوجين أن يعرف ما له وما عليه وقد بين الإسلام واجبات الزوجين وحقوقهما بياناً شاملاً فقد وردت نصوص كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تبين حقوق الزوجة على زوجها يقول الله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} سورة البقرة: ٢٢٧. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً) فمن حقوق الزوجة على زوجها أن يعاملها معاملة كريمة فيها اللطف والرحمة وحسن المعاملة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَاءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} وقد حثّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسن معاملة الزوجة في أحاديث كثيرة وقد بوب على بعضها الإمام البخاري بتراجم مناسبة فقال: "باب الوصاة بالنساء"، وقال الإمام البخاري أيضاً:"باب المداراة مع النساء"، وقال الإمام البخاري أيضاً:"باب حسن المعاشرة مع الأهل". ومن هذه الأحاديث حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع أعوج وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيراً) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وقد ورد أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال:(أن تطعمها إذا طعمت وتكسوه إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود، ومعنى لا تقبح أي لا تقل قبحك الله. وهو حديث حسن صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أب داود ٢/٤٠٢، وينبغي أن يعلم أنه يحرم على الزوج أن يسب زوجته وأهلها أو يلعنها فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه، هذه النصوص غيض من فيض، ولكن كيف هو تعامل الزوج مع زوجته في الأسرة اليوم؟ تجد سوء المعاملة، وتجد السب والشتم، وتجد الضرب والأذى المادي والمعنوي!! وليس الأمر مقصوراً على الزوج، بل تجد سوء المعاملة أيضاً من الزوجة فتسيء إلى زوجها وأولادها، فتلعن المرأة زوجها وأولادها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:(ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه. المثال الرابع في التعامل في الأسواق، تجد بعض التجار يبيعون المواد الفاسدة والمنتهية الصلاحية. ويتلاعبون في الأوزان ويسوقون البضاعة الرديئة، ويبيعون المواد الضارة بالصحة ويغشون الناس، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(من غشنا فليس منا) رواه مسلم. والأمثلة أكثر من أن تعد.
وخلاصة الأمر أن عبارة " الدين المعاملة " ليست حديثاً نبوياً، ولكنها عبارة صحيحة المعنى، ولا بد للمسلم أن يقف مع نفسه وقفة مراجعة صادقة، ولينظر في سلوكه وتصرفاته وتعاملاته مع الناس، هل هي منضبطة بضوابط الشرع الحنيف؟ وهل يجد فيها الآثار الطيبة لعباداته؟ فإن كان الأمر كذلك فليحمد الله عز وجل، وإن لم تكن، فلا بد أن يعيد حساباته ويراجع نفسه، حتى لا تذهب أعماله أدراج الرياح، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(رب صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائمٍ – مصلٍ- ليس له من قيامه إلا السهر) رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم، وصححه العلامة الألباني.