[٢٣ - لا يجري الربا في بيع القمح والملح والتمر بالدين]
يقول السائل: إنه صاحب متجر للمواد الغذائية وقد اعتاد على بيع القمح والملح والتمر بالدين لزبائنه، ولكنه سمع بعض الناس يحرم ذلك ويعتبره من الربا، فما قولكم في ذلك، أفيدونا؟ الجواب: ورد في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) رواه مسلم. هذا الحديث أصل في بيان الأصناف التي يجري فيها الربا، وقد اتفق جماهير أهل العلم على أن الربا يتعدى هذه الأصناف إلى غيرها إن اتحدت معها في العلة، ولكنهم اختلفوا في علة تحريم الربا في الأصناف المذكورة في الحديث، ومع ذلك فهم متفقون على أن الأصناف الستة المذكورة في الحديث تنقسم إلى مجموعتين: المجموعة الأولى: الذهب والفضة، والمجموعة الثانية: البر والشعير والتمر والملح، والفقهاء متفقون على أن علة التحريم في المجموعة الأولى واحدة، وعلة التحريم في المجموعة الثانية واحدة، أي أن علة التحريم في الذهب والفضة هي غير علة التحريم في البر والشعير والتمر والملح، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة , وعلة الأعيان الأربعة واحدة ثم اختلفوا في علة كل واحدٍ منهما] المغني ٤/٥. وقال الشيخ تقي الدين السبكي:[الأمة أجمعت على أن السنة المذكورة في الحديث جملتان متفاضلتان، النقدان والأشياء الأربعة، تنفرد كل جملة بعلتها] تكملة المجموع ١٠/٩١. وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية ٢٢/٦٤ ما نصه:[اتفق عامة الفقهاء على أن تحريم الربا في الأجناس المنصوص عليها إنما هو لعلة، وأن الحكم بالتحريم يتعدى إلى ما تثبت فيه هذه العلة، وأن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأجناس الأربعة الأخرى واحدة] . وينبغي أن يعلم أن مسألة تحديد العلة في الأصناف الربوية محل خلاف كبير بين العلماء، فهي مسألة اجتهادية وقد تباينت فيه أقوال العلماء: [فقال الحنفية: العلة: الجنس والقدر، وقد عرف الجنس بقوله صلى الله عليه وسلم:(الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة) ، وعرف القدر بقوله صلى الله عليه وسلم:(مثلاً بمثل) ، ويعني بالقدر الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن لقوله صلى الله عليه وسلم:(وكذلك كل ما يكال ويوزن) ، وقوله صلى الله عليه وسلم:(لا تبيعوا الصاع بالصاعين) ... وقال المالكية: علة الربا في النقود مختلف فيها، فقيل: غلبة الثمنية، وقيل: مطلق الثمنية ... وعلة ربا الفضل في الطعام الاقتيات والادخار ... وعلة ربا النساء مجرد الطعم ... وذهب الشافعية إلى أن العلة في تحريم الربا في الذهب والفضة كونهما جنس الأثمان غالباً ... والعلة في تحريم الربا في الأجناس الأربعة وهي البر والشعير والتمر والملح أنها مطعومة ... وروي عن أحمد بن حنبل في علة تحريم الربا في الأجناس الستة ثلاث روايات: أشهرها أن علة الربا في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس، وفي الأجناس الباقية كونها مكيلات جنس ... والرواية الثانية: أن العلة في الأثمان الثمنية، وفيما عداها كونه مطعوم جنس ... والرواية الثالثة: العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلا أو موزونا] الموسوعة الفقهية الكويتية ٢٢/٦٤-٦٧.
إذا تقرر هذا فقد اتفق أهل العلم على أن بيع الأصناف الربوية بعضها ببعض يكون على النحو الآتي: ١- إذا بيع الشيء بجنسه كتمر بتمر، فيشترط لذلك شرطان: التماثل والتقابض، أي تماثل الوزنين أو الكيلين مع التقابض في مجلس العقد. ولا يصح في هذه الحالة اختلافهما في القدر – الوزن أو الكيل – ولا يصح التأجيل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(مثلًا بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى) رواه البخاري ومسلم. ٢- إذا بيع الشيء بغير جنسه مع اتحاد العلة كذهب بفضة، فيشترط لذلك التقابض دون التماثل. فيصح أن يبيع مئة غرام ذهب بخمسمئة غرام فضة بشرط القبض في المجلس. ٣- إذا بيع الشيء بغير جنسه مع عدم الاتحاد في العلة، كبيع القمح بالذهب، أو الملح بالفضة، فلا يشترط لذلك لا تقابض ولا تماثل. ويلحق بذلك بيع أحد الأصناف الأربعة وهي البر والشعير والتمر والملح وما يجري مجراها بالنقود الورقية المعروفة اليوم، فيصح أن تبيع القمح إلى أجل، أي كما يسميه الناس اليوم البيع بالدين، قال الإمام النووي:[وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلاً ومؤجلاً، وذلك كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل.] شرح النووي على صحيح مسلم ١١/٩.
وقال الشيخ ابن حزم:[وجائز بيع القمح والشعير والتمر والملح بالذهب أو بالفضة يداً بيد ونسيئةً وجائز تسليم الذهب أو الفضة بالأصناف التي ذكرنا لأن النص جاء بإباحة كل ذلك وبالله تعالى التوفيق.] المحلى ٧/٤٣٨.
وقال الشيخ تقي الدين السبكي:[وأما إسلام النقدين في المطعومات فصحيح إذ لم يجتمعا في علة واحدة قال محمد بن يحيى: فإن قيل ينبغي ألا يصح لأن الحديث أخذ علينا شرطين: الحلول والتقابض عند اختلاف الجنس. قلنا: ظاهر هذا الكلام يقتضي هذا تنزيلاً على اختلاف الجنسين في هذه السنة المذكورة غير أن الأمة أجمعت على أن السنة المذكورة في الحديث جملتان متفاضلتان النقدان والأشياء الأربعة، تنفرد كل جملة بعلتها، والمراد بالحديث اختلاف الجنسين من جملة واحدة كالذهب بالفضة والحنطة بالشعير، وحاصله تخصيص عام أو تقييد مطلق بالإجماع وهذا الإجماع الذى قاله محمد بن يحيى والذى قاله المصنف في آخر هذا الفصل وسأذكر من نقله غيرهما إن شاء الله تعالى] تكملة المجموع ١٠/٩١. وقال الشيخ تقي الدين السبكي أيضاً: [قاعدة: العقود بالنسبة إلى التقابض على أربعة أقسام: (منها) ما يجب فيه التقابض قبل التفرق بالإجماع وهو الصرف، ومنها ما لايجب بالإجماع كبيع المطعومات وغيرها من العروض بالنقدين الذهب والفضة ... ] تكملة المجموع ١٠/٩٣. وقال الشيخ تقي الدين السبكي أيضاً:[إذا عرف ذلك فإذا باع الربوي بربوي آخر يخالفه في علة الربا حلَّ فيه التفاضل والنساء – أي التأجيل - والتفرق قبل التقابض لما ذكره المصنف رحمه الله وللإجماع المذكور نقله الشافعي رحمه الله تعالى في الإملاء واقتضاه كلامه في الأم والمختصر ولفظه في الإملاء أصرح قال فيه: [لأن المسلمين أجمعوا على أن الذهب والورق يسلمان فيما سواهما] وقال في الأم في باب الآجال في الصرف: [ولا أعلم المسلمين اختلفوا في أن الدنانير والدارهم يسلمان في كل شئ إلا أن أحدهما لا يسلم في الآخر] وقال في مختصر المزني رحمه الله: [ولا أعلم بين المسلمين خلافاً في أن الدينار والدرهم يسلمان في كل شئ ولا يسلم أحدهما في الآخر] تكملة المجموع ٠/١٧٣. ومما يدل على جواز بيع الحنطة والشعير والتمر والملح بالنقود إلى أجل ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت:(اشترى رسول الله صلى الله عله وسلم من يهودي طعاماً بنسيئة وأعطاه درعا له رهناً) رواه البخاري ومسلم. ومعنى نسيئة أي إلى أجل. ويدل عليه أيضاً ما ورد في الحديث عن ابن عباس: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال:(من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) رواه البخاري ومسلم. قال الشيخ العثيمين: [ ... وعلى هذا يجوز بيع صاع من البر بدينار من الذهب مع التفرق وعدم التساوي لاختلاف القصد؛ لأن هذا يقصد به النقد والثمنية، وهذا يقصد به القوت. فإن قيل: الحديث يدل على أنه لا يصح إلا بالقبض؛ فما هو الجواب؟ نقول: حقيقة إن هذا مقتضى الحديث أنك إذا بعت ذهباَ ببر وجب التقابض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) . والجواب عن هذا أن نقول: قد دلت السنة من وجه آخر على أن القبض ليس بشرط فيما إذا كان أحدهما ثمناً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال:(من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) . وعلى هذا؛ فحديث:(فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) لا عموم لمفهومه؛ فلا يشترط القبض في كل صورة من صور المخالفة، وإنما يشترط القبض فيما إذا اتفقا في الغرض؛ كذهب بفضة، أو بر بشعير، وأما ذهب أو فضة بشعير ونحوه؛ فلا يشترط القبض.] مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين ٩/٥٠١-٥٠٢. وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية ١٣/٢٨٢:[أجمع العلماء على جواز بيع الحنطة والشعير والتمر والملح بنقد ذهبي أو فضي أو ما قام مقامهما من العملات النقدية، حالاً أو مؤجلاً، سواء كان المؤجل بسعر الحال، أو أكثر أو أقل] .
وخلاصة الأمر أنه يجوز شرعاً بيع القمح والشعير والتمر والملح - وكذا كل ما يتحد معها في العلة - بالنقود إلى أجل، وأن القول بمنع ذلك قول مخالف لما دلت عليه الأدلة ولما تعارف عليه الناس منذ عهد بعيد، وما هو إلا جمود على ظاهر النص.