للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٥٧ - حكم تصدق الزوجة من مال الزوج]

تقول السائلة: هل يجوز للمرأة أن تتصدق من مال زوجها بدون إذنه؟

الجواب: لا شك أن الصدقة النافلة من أعمال البر والتقوى ويتقرب بها العبد إلى ربه جل وعلا وقد وردت نصوص كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الحض على الصدقة فمن ذلك قوله تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) سورة سبأ الآية ٣٩.

وقال تعالى (وأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ سورة البقرة ١١٠وورد في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله [ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه] رواه البخاري ومسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث ورجل لا مفهوم يعمل به فإن المرأة كذلك كما نبه عليه الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ٢/١٩٢ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حض النساء على التصدق فقد ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبل ولا بعد ثم مال على النساء ومعه بلال فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن فجعلت المرأة تلقي القُلب والخرص) رواه البخاري والقُلب بضم القاف وسكون اللام هو السوار والخرص هو الحلقة من ذهب أو فضة. والأصل أن الإنسان يتصدق من ماله الخاص به ولكن وردت السنة بجواز تصدق الزوجة من مال زوجها فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له) رواه البخاري ومسلم.

قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم في الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به أحد المتصدقين وفي رواية: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً) وفي روية من طعام زوجها وفي رواية في العبد إذا أنفق من مال مواليه قال: الأجر بينكما نصفان وفي رواية ولا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له معنى هذه الأحاديث أن المشارك في الطاعة مشارك في الأجر ومعنى المشاركة ومعنى المشاركة أن له أجراً كما لصاحبه أجر وليس معناه أن يزاحمه في أجره والمراد المشاركة في أصل الثواب فيكون لهذا الثواب ولهذا الثواب وإن كان أحدهما أكثر ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء] شرح النووي على صحيح مسلم ٣/٩٢. واعلم أن أكثر أهل العلم يشترطون أن يأذن الزوج لزوجته في التصرف بماله ويدل عليه ما ورد في الحديث عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: (لا تنفق المرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذن زوجها قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال ذلك أفضل أموالنا) رواه الترمذي وهو حديث حسن كما قال الألباني في صحيح سنن الترمذي ١/٢٠٦.

قال الإمام البغوي: [العمل على هذا عند أهل العلم أن المرأة ليس لها أن تتصدق بشيء من مال الزوج دون إذنه وكذلك الخادم ويأثمان إن فعلا ذلك وحديث عائشة خارج على عادة أهل الحجاز أنهم يطلقون الأمر للأهل والخادم في الإنفاق والتصدق مما يكون في البيت إذا حضرهم السائل أو نزل بهم الضيف فحضهم على لزوم تلك العادة كما قال لأسماء: (لا توعي فيوعى عليك) وعلى هذا يخرج ما روي عن عمير مولى آبي اللحم قال: كنت مملوكاً فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتصدق من مال موالي بشيء قال: (نعم والأجر بينكما نصفان) ] شرح السنة ٦/٢٠٥. وقال الإمام النووي: [واعلم أنه لا بد للعامل وهو الخازن وللزوجة والمملوك من إذن المالك في ذلك فإن لم يكن أذن أصلاً فلا أجر لأحد من هؤلاء الثلاثة بل عليهم وزر بتصرفهم في مال غيرهم بغير إذنه والإذن ضربان أحدهما الإذن الصريح في النفقة والصدقة والثاني الإذن المفهوم من اطراد العرف والعادة كإعطاء السائل كسرة ونحوها مما جرت العادة به واطراد العرف فيه وعلم بالعرف رضا الزوج والمالك به فإذنه في ذلك حاصل وإن لم يتكلم وهذا إذا علم رضاه لاطراد العرف وعلم أن نفسه كنفوس غالب الناس في السماحة بذلك والرضا به فإن اضطرب العرف وشك في رضاه أو كان شخصاً يشح بذلك وعلم من حاله ذلك أو شك فيه لم يجز للمرأة وغيرها التصدق من ماله إلا بصريح إذنه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له) . فمعناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين ويكون معها إذن عام سابق متناول لهذا القدر وغيره وذلك الإذن الذي قد بيناه سابقاً إما بالصريح وإما بالعرف ولا بد من هذا التأويل لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الأجر مناصفة وفي رواية أبي داود فلها نصف أجره ومعلوم أنها إذا أنفقت من غير إذن صريح ولا معروف من العرف فلا أجر لها بل عليها وزر فتعين تأويله. واعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير يعلم رضا المالك به في العادة فإن زاد على المتعارف لم يجز وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة) فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه قدر يعلم رضا الزوج به في العادة ونبه بالطعام أيضاً على ذلك لأنه يسمح به في العادة بخلاف الدراهم والدنانير في حق أكثر الناس وفي كثير من الأحوال] شرح النووي على صحيح مسلم ٣/٩٢-٩٣.

وقد ذكر بعض أهل العلم أن الأحاديث الواردة في المسألة فيها نوع من الاختلاف حيث ذكر في حديث أبي هريرة السابق أن المرأة لا تنفق من غير إذن الزوج وورد في حديث عائشة ما يدل على الإباحة بحصول الأجر لها في ذلك وورد في حديث عائشة بتقييده بأن تكون غير مفسدة وإن كان من غير أمره وورد في حديث سعد رضي الله عنه قال: لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء قامت امرأة جليلة كأنها من نساء مضر قالت: يا رسول الله إنا كلٌّ على آبائنا وأبنائنا وأزواجنا فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: الرطب تأكلنه وتهدينه) . رواه أبو داود وإسناده جيد كما في حاشية شرح السنة. قال الإمام العيني: [قلت: كيفية الجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف عادات البلاد وباختلاف حال الزوج من مسامحته ورضاه بذلك أو كراهته لذلك وباختلاف الحال في الشيء المنفق بين أن يكون شيئا يسيراً يتسامح به وبين أن يكون له خطر في نفس الزوج يبخل بمثله وبين أن يكون ذلك رطباً يخشى فساده إن تأخر وبين أن يكون يدخر ولا يخشى عليه الفساد] عمدة القاري ٦/٤٠١.

وخلاصة الأمر أنه يجوز للمرأة أن تتصدق من مال زوجها والأصل أنها تستأذنه في ذلك إلا ما جرى به العرف من عدم الحاجة لإذنه أو لأنه لا يكره ذلك كما إذا جاء سائل إلى البيت فأعطته الزوجة طعاماً أو نحوه فلا بأس في ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>