يقول السائل: توفي والدي وعنده أموال وجبت فيها الزكاة ولم يزك حال حياته، فهل الورثة مطالبون بإخراج زكاة مال الوالد بعد وفاته، أفيدونا؟ الجواب: من المعلوم أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وفريضة من الفرائض، وقد وردت نصوص كثيرة فيها كما في قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة التوبة الآية١٠٣، وقال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} سورة التوبة الآيتان ٣٤-٣٥، وورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) رواه البخاري ومسلم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهبٍ ولا فضةٍ لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، قيل يا رسول الله فالإبل، قال: ولا صاحب إبلٍ لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قرقرٍ- أرض مستوية واسعة - أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً، تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مرَّ عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل يا رسول الله فالبقر والغنم، قال: ولا صاحب بقرٍ ولا غنمٍ لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قرقرٍ، لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء - ملتوية القرنين - ولا جلحاء - لا قرن لها- ولا عضباء- انكسر قرنها- تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مرَّ عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من النصوص. ومن المعلوم أن الزكاة واجبة على الفور، على الراجح من أقوال أهل العلم، ويدل على ذلك قوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} سورة الأنعام الآية١٤١. ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت في الحديث عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال:(صلَّى الرسول صلى الله عليه وسلم العصر فأسرع ثم دخل بيته فلم يلبث أن خرج، فقلت له، أو قيل له، فقال: كنت خلَّفت في البيت تبراً من الصدقة فكرهت أن أبيَّته فقسمته) رواه البخاري، فالواجب على المسلم أن يبادر إلى إخراج الزكاة حال وجوبها في ماله، فإن مات المكلف بها بعد الوجوب وقبل إخراجها أثم إلا من عذر، وتبقى ديناً في ذمته يلزم الورثة إخراجها بعد نفقات تجهيز الميت وقبل الوصايا وقبل توزيع التركة على الورثة، لأن التركة لا توزع إلا بعد سداد الديون، والزكاة دين لله وهى أحق بالوفاء. والدين مقدم على الوصية باتفاق أهل العلم، وهذا هو الراجح من أقوال العلماء، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[ولا تسقط الزكاة بموت رب المال , وتُخرج من ماله وإن لم يوص بها، هذا قول عطاء والحسن , والزهري وقتادة ومالك , والشافعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، وقال الأوزاعي والليث تؤخذ من الثلث , مقدمةً على الوصايا ولا يجاوز الثلث، وقال ابن سيرين والشعبي والنخعي وحماد بن أبي سليمان وداود بن أبي هند , وحميد الطويل والمثنى والثوري: لا تخرج إلا أن يكون أوصى بها، وكذلك قال أصحاب الرأي , وجعلوها إذا أوصى بها وصية تُخرج من الثلث ويزاحم بها أصحاب الوصايا، وإذا لم يوص بها سقطت، لأنها عبادة من شرطها النية , فسقطت بموت من هي عليه كالصوم. ولنا أنها حق واجب تصح الوصية به , فلم تسقط بالموت كدين الآدمي، ولأنها حق مالي واجب فلم يسقط بموت من هو عليه , كالدين، ويفارق الصوم والصلاة فإنهما عبادتان بدنيتان لا تصح الوصية بهما , ولا النيابة فيهما] المغني ٢/٥٠٩. وقال الإمام النووي: [فمن وجبت عليه زكاةٌ وتمكن من أدائها فمات قبل أدائها عصى ووجب إخراجها من تركته عندنا بلا خلاف، وبه قال جمهور العلماء، وقال أبو حنيفة تسقط عنه الزكاة بالموت، وهو مذهب عجيب فإنهم يقولون الزكاة تجب على التراخي وتسقط بالموت وهذا طريق إلى سقوطها. ودليلنا ما ذكره المصنف. وإذا اجتمع في تركة الميت دين لله تعالى ودين لآدمي كزكاة وكفارة ونذر وجزاء صيد وغير ذلك، ففيه ثلاثة أقوال مشهورة ذكرها المصنف بأدلتها (أصحها) يقدم دين الله تعالى (والثاني) دين الآدمي (والثالث) يستويان فتوزع عليهما بنسبتهما، وحكى بعض الخراسانيين طريقاً آخر أن الزكاة المتعلقة بالعين تقدم قطعاً وإنما الأقوال في الكفارات وغيرها مما يسترسل في الذمة مع حقوق الآدمي، وقد تكون الزكاة من هذا القبيل بأن يكون له مال فيتلف بعد الحول والإمكان ثم يموت وله تركة فالزكاة هنا متعلقة بالذمة ففيها الأقوال. وأجابوا عن حجة منْ قدم دين الآدمي وقياسه على قتل الردة وقطع السرقة بأنه إنما قدمنا حق الآدمي هناك لاندراج حق الله تعالى في ضمنه وحصول مقصوده وهو إعدام نفس المرتد ويد السارق وقد حصل بخلاف الديون، ولأن الحدود مبنية على الدرء والإسقاط بخلاف حقوق الله تعالى المالية.] المجموع ٦/٢٣٢. ومما يدل على عدم سقوط الزكاة عن الميت بوفاته، أن الزكاة حق لله تعالى، بل هي دين الله، وديون الله أحق بالوفاء كما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما:(أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك، وفي قوله " فالله أحق بالوفاء " دليل على أنه مقدم على دين الآدمي] فتح الباري ٦/٧٥. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي ماتت وعليها صوم شهر. فقال: أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه؟ قالت نعم. قال: فدين الله أحق بالقضاء) رواه مسلم. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) رواه البخاري ومسلم. وذِكْرُ النبي صلى الله عليه وسلم دينَ العباد في الأحاديث يدل على أن دين الله ملحق به في القضاء، بل هو أولى منه. ومما يؤيد ذلك أيضاً ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من مات وعليه صيام صام عنه وليه) رواه البخاري ومسلم، مع أن الصيام عبادة بدنية شخصية، وجازت فيه النيابة بعد الموت، فضلاً من الله ورحمة، فأولى بذلك الزكاة، وهي حق مالي. انظر فقه الزكاة ٢/٨٣٥. ودين الله عند الفقهاء هو كل دين ليس له من العباد من يطالب به على أنه حق له، وهو نوعان: نوع يظهر فيه وجه العبدة والتقرب إلى الله تعالى، وهو ما لا مقابل له من المنافع الدنيوية، كصدقة الفطر، وفدية الصيام، وديون النذور، والكفارات ونحو ذلك، فإنها عبادات يؤديها المسلم امتثالاً لأمر الله تعالى وتقرباً إليه. ونوعٌ يفرض لتمكين الدولة من القيام بأعباء المصالح العامة للأمة، وهو ما يُقابَلُ - في الغالب- بمنفعة دنيوية للمكلف كخمس الغنائم وما أفاء الله على المؤمنين من أعدائهم من غير قتال، وما يفرضه الإمام على القادرين من أفراد الأمة للوفاء بالمصالح التي يعجز بيت المال عن الوفاء بها. الموسوعة الفقهية الكويتية ٢١/١١٧-١١٨.
وخلاصة الأمر أن الزكاة لا تسقط بالموت، والواجب على الورثة إخراج زكاة مال الوالد الميت قبل تنفيذ وصاياه وقبل توزيع التركة على الورثة، لأن الزكاة دين الله، ودين الله أحق بالوفاء وأولى بالقضاء كما ورد في الأحاديث. كما أن في إخراج زكاة مال الوالد الميت نوعٌ من البر له، وإبراءٌ لذمته من حقوق الله عز وجل.