يقول السائل: إن زوجته تجلس مع صديقاتها كثيراً ويتحدثن في أمور حياتهن الزوجية وعن علاقتهن بأزواجهن وإن مثل هذه الأحاديث تؤدي إلى كشف بعض الأسرار عن حياته مع زوجته وهو يبغض هذا التصرف من زوجته، فما حكم الشرع في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن في الحياة الزوجية أسراراً كثيرة يجب على الزوجين أن يحافظا على كتمانها ولا يجوز إفشائها وهذا الكتمان يتناول المعاشرة بين الزوجين وأموراً أخرى خاصة بهما ويجب أن يعلم أن حفظ أسرار الحياة الزوجية واجب على الزوج والزوجة معاً وليس الأمر مخصوصاً بأحدهما وقد أثنى الله على النساء الصالحات بقوله تعالى: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) سورة النساء الآية ٣٤. قال الشهيد سيد قطب يرحمه الله: [فمن طبيعة المؤمنة الصالحة ومن صفتها الملازمة لها بحكم إيمانها وصلاحها، أن تكون قانتة مطيعة، والقنوت: الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة، لا عن قسر وإرغام وتفلت ومعاظلة! ومن ثم قال: قانتات، ولم يقل طائعات، لأن مدلول اللفظ الأول نفسي وظلاله رخية ندية وهذا هو الذي يليق بالسكن والمودة والستر والصيانة بين شطري النفس الواحدة، في المحضن الذي يرعى الناشئة ويطبعهم بجوه وأنفاسه وظلاله وإيقاعاته! ومن طبيعة المؤمنة الصالحة ومن صفاتها الملازمة لها بحكم إيمانها وصلاحها كذلك أن تكون حافظة لحرمة الرباط المقدس بينها وبين زوجها في غيبته - وبالأولى في حضوره - فلا تبيح من نفسها في نظرة أو نبرة، - بله العرض والحرمة - ما لا يباح إلا له هو بحكم أنه الشطر الآخر للنفس الواحدة. وما لا يباح، لا تقرره هي ولا يقرره هو، إنما يقرره الله سبحانه (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) . فليس الأمر أمر رضاء الزوج عن ان تبيح زوجته من نفسها في غيبته أو حضوره، ما لا يغضب هو له، أو يمليه عليه وعليها المجتمع! إذا انحرف المجتمع عن منهج الله. إن هنالك حكماً واحداً في حدود هذا الحفظ فعليها أن تحفظ نفسها (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) ، والتعبير القرآني لا يقول هذا بصيغة الأمر، بل بما هو أعمق وأشد توكيداً من الأمر، إنه يقول: إن هذا الحفظ بما حفظ الله هو من طبيعة الصالحات ومن مقتضى صلاحهن! وعندئذ تتهاوى أعذار المهزومين والمهزومات من المسلمين والمسلمات، أمام ضغط المجتمع المنحرف، وتبرز حدود ما تحفظه الصالحات بالغيب:(بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) مع القنوت الطائع الراضي الودود] في ظلال القرآن ٢/٣٥٧-٣٥٨.
وقال الشيخ محمد رشيد رضا يرحمه الله في تفسير الآية السابقة: [هذا تفصيل لحال النساء في هذه الحياة المنزلية التي تكون المرأة فيها تحت رياسة الرجل ذكر أنهن فيها قسمان صالحات وغير صالحات وأن من صفة الصالحات القنوت وهو السكون والطاعة لله تعالى وكذا لأزواجهن بالمعروف وحفظ الغيب. قال الثوري وقتادة: حافظات للغيب يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال وروى ابن جرير والبيهقي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير النساء التي إذا نظرت إليك سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها) وقرأ صلى الله عليه وسلم الآية. وقال الأستاذ الإمام: الغيب هنا هو ما يستحى من إظهاره أي حافظات لكل ما هو خاص بأمور الزوجية لكل ما هو خاص بأمور الزوجية الخاصة بالزوجين فلا يطلع أحد منهن على شيء مما هو خاص بالزوج. أقول ويدخل في قوله هذا وجوب كتمان كل ما يكون بينهن وبين أزواجهن في الخلوة ولا سيما حديث الرفث فما بالك بحفظ العرض، وعندي أن هذه العبارة هي أبلغ ما في القرآن من دقائق كنايات النزاهة تقرأها خرائد العذارى جهراً ويفهمن ما تومىء إليه مما يكون سراً وهن على بعد من خطرات الخجل أن تمس وجدانهن الرقيق بأطراف أناملها فلقلوبهن الأمان من تلك الخلجات التي تدفع الدم إلى الوجنات ناهيك بوصل حفظ الغيب (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) فالانتقال السريع من ذكر ذلك الغيب الخفي إلى ذكر الله الجلي يصرف النفس عن التمادي في التفكر فيما يكون من وراء الأستار من تلك الخفايا والأسرار وتشغلها بمراقبته عز وجل وفسروا قوله تعالى (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) بما حفظه لهن في مهورهن وإيجاب النفقة لهن يريدون أنهن يحفظن حق الرجال في غيبتهم جزاء على المهر ووجوب النفقة المحفوظين لهن في حكم الله تعالى وما أراك إلا ذاهباً معي إلى وهن هذا القول وهزاله وتكريم أولئك الصالحات بشهادة الله تعالى أن يكون حفظهن لذلك الغيب من يد تلمس أوعين تبصر أو أذن تسترق السمع معللاً بدراهم قبضن ولقيمات يرتقبن ولعلك بعد أن تمج هذا القول يقبل ذوقك ما قبله ذوقي وهو أن الباء في قوله (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) هي صنو باء لا حول ولا قوة إلا بالله، وان المعنى حافظات للغيب بحفظ الله أي بالحفظ الذي يؤتيهن الله إياه بصلاحهن فإن الصالحة يكون لها من مراقبة الله تعالى وتقواه ما يجعلها محفوظة من الخيانة قوية على حفظ الأمانة أو حافظات له بسبب أمر الله بحفظه فهن يطعنه ويعصين الهوى فعسى أن يصل معنى هذه الآية إلى نساء عصرنا اللواتي يتفكهن بإفشاء أسرار الزوجية ولا يحفظن الغيب فيها!] تفسير المنار ٥/٧٠-٧١. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من كشف أسرار العلاقة الزوجية بين الزوجين فقد جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) رواه مسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم:(إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) . قال الإمام النووي يرحمه الله شارحاً الحديث:[باب تحريم إفشاء سر المرأة ... وفي هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه] شرح النووي على صحيح مسلم ١٠/٨-٩. وجاء في حديث طويل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مخاطباً أصحابه:(هل منكم الرجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه وألقى عليه ستره واستتر بستر الله؟ قالوا: نعم. قال: ثم يجلس بعد ذلك فيقول فعلت كذا فعلت كذا. قال: فسكتوا. قال: فأقبل على النساء فقال: هل منكن من تحدث؟ فسكتن. فجثت فتاة على إحدى ركبتيها وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها ويسمع كلامها، فقالت: يا رسول الله إنهم ليتحدثون، وإنهن ليتحدثن. فقال: هل تدرون ما مثل ذلك؟ فقال: إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطاناً في السكة فقضى منها حاجته والناس ينظرون إليه) رواه أبو داود وأحمد، وفي سنده بعض كلام وله شواهد تقويه، كما قال ابن حجر المكي الهيتمي في الزواجر ٢/٥٩. وقال صاحب عون المعبود:[والحديث يدل على تحريم إفشاء أحد الزوجين لما يقع بينهما من أمور الجماع وذلك لأن كون الفاعل لذلك بمنزلة شيطان لقي شيطانة فقضى حاجته منها والناس ينظرون، من أعظم الأدلة الدالة على تحريم نشر أحد الزوجين للأسرار الواقعة بينهما الراجعة إلى الوطء ومقدماته] عون المعبود شرح سنن أبي داو ٦/١٥٨. وقد اعتبر الشيخ ابن حجر المكي الهيتمي أن نشر أسرار العلاقة الزوجية من كبائر الذنوب واستدل على ذلك بالأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر ٢/٦٠. وكما قلت فإن المحافظة على الأسرار بين الزوجين ليست مقصورة على العلاقة الزوجية بينهما بل تتعداها إلى أمور كثيرة في الحياة الزوجية وقد لام النبي صلى الله عليه وسلم بعض زوجاته عندما أفشت بعض الأسرار التي أطلعها عليها، قال الله تعالى:(وإذ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) سورة التحريم ٣-٤.
وكذلك فإن البيوت فيها أسرار كثيرة لا ينبغي نشرها وإشاعتها وإن نشر تلك الأسرار قد يؤدي إلى وقوع الخلاف والنزاع بين الزوجين فمحافظة على استقرار الحياة الزوجية يجب كتمان أسرار الزوجين وعدم نشرها. ومما ينبغي التنبيه عليه أن كتمان الأسرار يدخل في مجالات كثيرة منها مجال العمل فالموظف الذي يعمل في شركة أو مصنع أو أية مؤسسة عليه أن يحافظ على أسرار العمل الذي يشتغل فيه ولا يجوز له أن يفشي أسرار محل عمله لما يترتب على ذلك من إلحاق الضرر والأذى وإن إفشاء مثل هذه الأسرار يعتبر خيانة للأمانة والله سبحانه وتعالى يقول:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة الأنفال الآية ٢٧. فإفشاء السر خيانة للأمانة وخيانة الأمانة من المحرمات وقد جاء في الحديث عن أنس رضي الله عنه أنه قال (أتى عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان فسلّم علينا فبعثني في الحاجة فأبطأت على أمي فلما جئت قالت: ما حبسك؟ فقلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة. قال: ما حاجته؟ قلت: إنها سر. قالت: لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.