للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٥ - إعانة القاتل عمدا بأموال ازكاة لسداد الدية]

قول السائل: هل يجوز إعانة القاتل عمداً من أموال الزكاة في سداد الدية المترتبة عليه، أفيدونا؟

الجواب: لا بد أن يعلم أولاً أن قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق من كبائر الذنوب، وقد وردت النصوص الكثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك فمنها قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً} سورة الإسراء الآية ٣٣. وقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} سورة النساء الآية ٩٣. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} سورة الفرقان الآيتان ٦٨-٦٩. وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين، فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور. قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ ابن العربي قوله: [الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول] فتح الباري ١٢/٢٣٣. وروى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله) وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله (إن من ورطات) بفتح الواو والراء، ... وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك يقال وقع فلان في ورطة أي في شيء لا ينجو منه، وقد فسرها في الخبر بقوله التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها.] فتح الباري ١٢/٢٣٣-٢٣٤. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ... كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي ٣/٤٠. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي ٢/٥٦. وجاء في رواية أخرى عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار) وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب ٢/٦٢٩. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب ٢/٦٣٠. وغير ذلك من النصوص التي تدل على عظمة النفس المعصومة. ونظر ابن عمر رضي الله عنه يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة فقال ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) رواه الترمذي. ولا بد أن يعلم ثانياً أن مصارف الزكاة قد بينها الله عز وجل في قوله تعالى: ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ? سورة التوبة الآية ٦٠. والغارمون هم أحد مصارف الزكاة بنص الآية الكريمة، والغارمون: جمع غارِم. وهو الذي تحمل الدين وتعين عليه أداؤه، فهو مثقل بالدين. وقد اتفق العلماء على أن الغارمين: هم المدينون. ولا بد أن يعلم ثالثاً أن دية القتل العمد تجب في مال القاتل، والعاقلة لا تحمل دية العمد، بل تحمل دية القتل الخطأ، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها العاقلة، وهذا قضية الأصل، وهو أن بدل المتلَف يجب على المتلِف، وأرش الجناية على الجاني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجني جانٍ إلا على نفسه) وقال لبعض أصحابه حين رأى معه ولده: " ابنك هذا؟ " قال: نعم قال: (أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه) ولأن موجب الجناية أثر فعل الجاني , فيجب أن يختص بضررها كما يختص بنفعها فإنه لو كسب كان كسبه له دون غيره , وقد ثبت حكم ذلك في سائر الجنايات والأكساب، وإنما خولف هذا الأصل في قتل المعذور فيه لكثرة الواجب , وعجز الجاني في الغالب عن تحمله مع وجوب الكفارة عليه وقيام عذره، تخفيفاً عنه ورفقاً به، والعامد لا عذر له، فلا يستحق التخفيف، ولا يوجد فيه المعنى المقتضى للمواساة في الخطأ] المغني ٨/٣٧٣.

وبناءً على ذلك فإن القاتل عمداً يتحمل الدية ويلزمه شرعاً دفعها، فإن عجز عن دفع الدية وكان معسراً، فإنه يُنظرُ إلى ميسرة، وحينئذ يكون غارماً، فيدخل في عموم صنف الغارمين المذكورين في آية الصدقات ?وَالْغَارِمِينَ?، فهذا القاتل عمداً والعاجز عن دفع الدية داخلٌ في عموم الغارمين، قال ابن حزم الظاهري: [والدية في العمد والخطأ مائة من الإبل، فإن عدمت فقيمتها لو وجدت في موضع الحكم - بالغة ما بلغت - من أوسط الإبل - بالغة ما بلغت - وهي في الخطأ على عاقلة القاتل. وأما في العمد فهي في مال القاتل وحده وهي في كل ذلك حالة العمد والخطأ سواء لا أجل في شيء منها، فمن لم يكن له مال ولا عاقلة، فهي في سهم الغارمين في الصدقات - وكذلك من لم يعرف قاتله ... وفي العمد يكون القاتل إذا قبلت منه الدية غارماً من الغارمين فحظهم في سهم الغارمين واجب، أو في كل مال موقوف لجميع مصالح أمور المسلمين] المحلى ١٠/٢٨٢ فما بعدها. إذا تقرر جواز إعانة القاتل عمداً من مال الزكاة في دفع الدية المترتبة عليه، فإنه يشترط لذلك أن يتوب مما ارتكب توبة صادقة، فإن التوبة واجبة على العاصي لقوله تعالى: ?وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? سورة النور الآية ٣١. وقال الله تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا? سورة التحريم الآية ٨. وقال الله تعالى: ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ? سورة الزمر الآية ٥٣. وجاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ٢/٤١٨. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي، وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ٢/٤١٨. ولا بد من التذكير بأن التوبة الصادقة لا بد لها من شروط: أولها: الإقلاع عن المعصية فلا توبة مع مباشرة الذنب واستمرار الوقوع في المعصية. ثانيها: الندم على ما مضى وفات، فمن لم يندم على ما صدر عنه من المعاصي والآثام فلا توبة له، لأن عدم ندمه يدل على رضاه بما كان منه وإصراره عليه. ثالثها: أن يعزم على عدم العودة إلى المعصية مستقبلاً، وهذا العزم ينبغي أن يكون مؤكداً قوياً وعلى التائب أن يكثر من فعل الخيرات ليكسب الحسنات ?فإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ?. ورابعها: إذا كانت المعصية تتعلق بحق من حقوق الناس فلا بد من إعادة الحقوق لأصحابها. فإن تاب وظهرت عليه علامات التوبة النصوح، فإنه حينئذ يعان من مال الزكاة، فإن التوبة تجب ما قبلها.

وخلاصة الأمر أنه يجوز إعانة القاتل عمداً في دفع الدية من مال الزكاة إذا كان معسراً، بشرط أن يتوب توبة صادقة، وأن تظهر عليه علامات التوبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>