[١٠ - العمرة في شهر رجب]
يقول السائل: يفضل بعض الناس أن يعتمروا في شهر رجب لما في ذلك من الفضيلة فما صحة ذلك أفيدونا؟ الجواب: شهر رجب من الأشهر الحرم المذكورة في قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} سورة التوبة الآية ٣٦. والأشهر الحرم المقصودة في الآية هي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب الذي هو بين جمادى الآخرة وشعبان وقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم رجباً بهذا لأن بعض العرب كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً فقد ورد في الحديث الصحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) رواه البخاري ومسلم. والأشهر الحرم لها فضل عظيم فضلها الله سبحانه وتعالى على سائر الأشهر ولله سبحانه وتعالى حكمة عظيمة في ذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: [خص الله من شهور العام أربعة أشهر فجعلهن حرماً وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن والعمل الصالح والأجر أعظم] . ورغم ما لهذه الأشهر من فضل عظيم فلا يجوز تخصيص شهر منها بعبادة مخصوصة إلا بدليل شرعي لأن الأصل في ذلك هو التلقي عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشيخ أبو شامة المقدسي: [ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان ليس لبعضها على بعض فضل إلا ما فضله الشرع وخصه بنوعٍ من العبادة فإن كان ذلك اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها كصوم يوم عرفة وعاشوراء والصلاة في جوف الليل والعمرة في رمضان ومن الأزمان ما جعله الشرع مفضلاً فيه جميع أعمال البر كعشر ذي الحجة وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر أي العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر فمثل ذلك يكون أي عمل من أعمال البر حصل فيها كان له الفضل على نظيره في زمن آخر. فالحاصل أن المكلف ليس له منصب التخصيص بل ذلك إلى الشارع وهذه كانت صفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم] الباعث على إنكار البدع والحوادث ص٧٧.
إذا تقرر هذا فإنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في رجب أو حض على العمرة في رجب كما حض على العمرة في رمضان وهذا هو القول الصحيح الذي عليه المحققون من أهل العلم وتؤيده الأدلة الصحيحة:
فعن قتادة أنَّ أنساً رضي الله عنه أخبره قال: [اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي كانت مع حجته عمرة من الحديبية في ذي القعدة وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة وعمرة مع حجته] رواه البخاري ومسلم.
ويؤيده ما ورد عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري٣/٧٥٨.
وأما ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب كما روى ذلك البخاري ومسلم عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جالس إلى حجرة عائشة رضي الله عنها وإذا ناس يصلون في المسجد صلاة الضحى، قال: فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة ثم قال له: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعاً إحداهن في رجب، فكرهنا أن نرد عليه، قال: وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين في الحجرة، فقال عروة: يا أماه يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول
أبو عبد الرحمن؟ قالت: ما يقول؟ قال: يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب، قالت: يرحم الله أبا
عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده وما اعتمر في رجب قط) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (يرحم الله أبا عبد الرحمن) هو عبد الله بن عمر ذكرته بكنيته تعظيماً له ودعت له إشارة إلى أنه نسي, وقوله: (وما اعتمر) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (عمرة إلا وهو) أي ابن عمر (شاهده) أي حاضر معه, وقالت ذلك مبالغة في نسبته إلى النسيان, ولم تنكر عائشة على ابن عمر إلاّ قوله إحداهن في رجب] فتح الباري ٣/٧٥٩.
وفي رواية مسلم (قال أخبرني عروة بن الزبير قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن، قال: فقلت يا أبا عبد الرحمن اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب؟ قال: نعم، فقلت لعائشة: أي أمتاه ألا تسمعين ما يقول
أبو عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قلت: يقول اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن لعمري ما اعتمر في رجب وما اعتمر من عمرة إلا وإنه لمعه، قال: وابن عمر يسمع فما قال لا ولا نعم سكت) .
قال الإمام النووي: [وأما قول ابن عمر: (إن إحداهن في رجب) فقد أنكرته عائشة وسكت ابن عمر حين أنكرته. قال العلماء: هذا يدل على أنه اشتبه عليه أو نسي أو شك, ولهذا سكت عن الإنكار على عائشة ومراجعتها بالكلام, فهذا الذي ذكرته هو الصواب الذي يتعين المصير إليه] شرح النووي على صحيح مسلم ٣/٣٨١.
وقال الإمام القرطبي المحدث: [وأما قول ابن عمر: أنه اعتمر في رجب، فقد غلَّطته في ذلك عائشة ولم ينكر عليها ولم ينتصر، فظهر أنه كان على وهم وأنه رجع عن ذلك] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ٣/٣٦٧-٣٦٨.
وقال الشيخ علي بن إبراهيم العطار: [اعلم أن العلماء أجمعوا على أن رمضان أفضل الشهور وذا الحجة والمحرم أفضل من رجب بل لو قيل ذو القعدة أفضل من رجب لكان سائغاً لأنه من الأشهر الحرم ولا شيء يتصور في رجب من الفضائل سوى ما قيل من الإسراء ولم يثبت ذلك وما روي في فضل صيام رجب وشعبان أو تضعيف الجزاء على صيامهما فكله موضوع أو ضعيف لا أصل له، وكذا ما أخرج العساكري والكتاني في الصيام والتضعيف، موضوع لا يحتج به أصلاً، وكان عبد الله الأنصاري لا يصوم رجباً وينهى عنه ويقول لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، وما روي من كثرة صيام شعبان فلأنه ربما كان يصوم ثلاثة من كل شهر ويشتغل عنها في بعض الشهور فيتداركه في شعبان أو لغير ذلك ومما يفعل في هذه الأزمان إخراج الزكاة في رجب دون غيره لا أصل له، وكذا كثرة اعتمار أهل مكة في رجب لا أصل له في علمي وإنما الحديث (عمرة في رمضان تعدل حجة) ومما أحدث العوام صيام أول خميس من رجب ولعله يكون آخر يوم من الجمادى وكله بدعة، ومما أحدثوا في رجب وشعبان إقبالهم على الطاعة أكثر وإعراضهم في غيرها حتى كأنهم لم يخاطبوا إلا فيهما] .
وينبغي أن يعلم أن العمرة مشروعة في رجب كما تشرع في غيره من الشهور ولكن دون أن يقصد المعتمر تخصيص رجب بالعمرة فإذا اعتمر المسلم في شهر رجب لأنه تيسرت له العمرة في ذلك الوقت فلا بأس بذلك إن شاء الله وله الأجر والثواب.
وخلاصة الأمر أنه لا فضيلة خاصة للعمرة في شهر رجب ولم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في شهر رجب ومع ذلك إذا اعتمر المسلم في شهر رجب من غير تخصيص فلا حرج عليه وله الأجر والثواب.