[٤ - القيء طاهر ولا ينقض الوضوء]
يقول السائل: هل قيء الآدمي طاهر أم نجس وهل يعتبر القيء من نواقض الوضوء؟ الجواب: القيء هو الطعام الذي يخرج من المعدة بعد استقراره فيها وذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن القيء نجس ووافقهم المالكية في حالة تغيره عن حال الطعام فإن لم يتغير فهو طاهر.
وخالف في ذلك جماعة من أهل العلم فذهبوا إلى أن القيء طاهر وهو الذي أرجحه لأن القائلين بنجاسته ليس معهم دليل يعتمد عليه وأما الذين قالوا بأنه طاهر فاعتمدوا على قاعدة أن الأصل في الأعيان الطهارة حتى يأتي دليل ناقل عنها ولا دليل يخرج قيء الآدمي عن الطهارة إلى النجاسة.
قال الشوكاني: [والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه] وقال صديق حسن خان شارحاً كلام الشوكاني ما نصه: [لأن كون الأصل الطهارة معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزئياتها ولا ريب أن الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم من أحكام الشرع والأصل البراءة من ذلك ولا سيما من الأمور التي تعم بها البلوى وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السكوت عن الأمور التي سكت الله تعالى عنها وأنها عفو فما لم يرد فيه شيء من الأدلة الدالة على نجاسته فليس لأحد من عباد الله تعالى أن يحكم بنجاسته بمجرد رأي فاسد أو غلط في الاستدلال كما يدعيه بع أهل العلم من نجاسة ما حرمه الله تعالى زاعماً أن النجاسة والتحريم متلازمان. وهذا الزعم من أبطل الباطلات فالتحريم للشيء لا يدل على نجاسته بمطابقة ولا تضمن ولا التزام فتحريم الخمر والميتة والدم لا يدل على نجاسة ذلك] الروضة الندية ١/١١٨.
وقال الشوكاني في موضع آخر: [حق استصحاب البراءة الأصلية وأصالة الطهارة أن يطالب من زعم بنجاسة عين من الأعيان بالدليل فإن نهض به كما في نجاسة بول الآدمي وغائطه والروثة فذاك وإن عجز عنه أو جاء بما لا تقوم به الحجة فالواجب علينا الوقوف على ما يقتضيه الأصل والبراءة] السيل الجرار ١/٣١.
وقال أيضاً: [قد عرفناك في أول كتاب الطهارة أن الأصل في جميع الأشياء هو الطهارة وأنه لا ينقل عن ذلك إلا ناقل صحيح صالح للاحتجاج به غير معارض بما يرجح عليه أو يساويه فإن وجدنا ذلك فبها ونعمت وإن لم نجد ذلك كذلك وجب علينا الوقوف في موقف المنع ونقول لمدعي النجاسة: هذه الدعوى تتضمن أن الله سبحانه أوجب على عباده واجباً هو غسل هذه العين التي تزعم أنها نجسة وأنه يمنع وجودها صحة الصلاة بها فهات الدليل على ذلك. فإن قال حديث عمار: (إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني) قلنا: هذا لم يثبت من وجه صحيح ولا حسن ولا بلغ إلى أدنى درجة من الدرجات الموجبة للاحتجاج به والعمل عليه فكيف يثبت به هذا الحكم الذي تعم به البلوى وهو لا يصلح لإثبات أخف حكم على فرد من أفراد العباد] المصدر السابق ١/٤٣.
وقال الألباني معلقاً على قول صاحب فقه السنة إن من النجاسات القيء: [قلت: لم يذكر المؤلف الدليل على ذلك اللهم إلا قوله: [إنه متفق على نجاسته] وهذه دعوى منقوضة فقد خالف في ذلك ابن حزم حيث صرح بطهارة قيء المسلم وهو مذهب الإمام الشوكاني في الدرر البهية وصديق خان في شرحها حيث لم يذكرا في النجاسات قيء الآدمي مطلقاً وهو الحق ثم ذكرا أن في نجاسته خلافاً ورجحا الطهارة بقولهما: [والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه] وذكر نحوه الشوكاني أيضاً في السيل الجرار. وهذا الأصل قد اعتمده المؤلف في غير ما مسألة مثل طهارة أبوال ما يؤكل لحمه وطهارة الخمر فيما ذكر هو بعد وهو أصل عظيم من أصول الفقه فلا أدري ما الذي حمله على تركه هنا مع أنه ليس في الباب ما يعارضه من النصوص الخاصة؟] تمام المنة ٥٣-٥٤.
واحتج الجمهور على نجاسة القيء بما روي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا عمار إنما يغسل الثوب من الغائط والبول والقيء والدم والمني] رواه الدارقطني. وهو حديث ضعيف لا يصح الاستدلال به. قال الإمام النووي: [حديث عمار هذا رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده والدارقطني والبيهقي، قال البيهقي: هو حديث باطل لا أصل له وبين ضعفه الدارقطني والبيهقي] المجموع ٢/٥٤٩.
وتكلم الحافظ ابن حجر على حديث عمار وبين ضعفه وذكر أن فيه رجلاً متهماً بالوضع وذكر أن العلماء اتفقوا على ترك حديثه. انظر التلخيص الحبير ١/٣٣. وانظر نصب الراية ١/٢١٠-٢١١.
ويؤيد ذلك أن القيء عند الأطباء عبارة عن الطعام الذي أكله الشخص ومعه العصارات الهاضمة وخاصة حامض الهيدروكلوريك. هذا ما يتعلق بكون القيء طاهر أم نجس وقد تبين لنا أنه باق على أصل الطهارة ولم يثبت دليل صحيح ناقل له عنها.
وأما أن القيء ينقض الوضوء أم لا؟ فالراجح من أقوال أهل العلم أن القيء ليس من نواقض الوضوء حيث لم يثبت دليل صحيح على كونه من نواقض الوضوء قال الإمام النووي: [وأحسن ما اعتقده في المسألة أن الأصل أن لا نقض حتى يثبت بالشرع ولم يثبت، والقياس ممتنع في هذا الباب لأن علة النقض غير معقولة] المجموع ١/٥٥.
وأما ما روي في الحديث عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء ?: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال: صدق أنا صببت له وضوءه) رواه أحمد والترمذي وغيرهما.
وهو حديث مختلف فيه فمنهم من صححه ومنهم من ضعفه.
وأجاب الحافظ ابن عبد البر عن حديث أبي الدرداء بقوله: (وهذا حديث لا يثبت عند أهل العلم بالحديث ولا في معناه ما يوجب حكماً. والنظر يوجب أن وضوءه ها هنا غسل فمه ومضمضته وهو أصل لفظ الوضوء في اللغة وهو مأخوذ من الوضاءة والنظر يوجب أن الوضوء المجتمع عليه لا ينتقض إلا بسنة ثابتة لا مدفع فيها أو إجماع ممن تجب الحجة بهم، ولم يأمر الله تعالى بإيجاب الوضوء من القيء ولا ثبت به سنة عن رسوله صلى الله عليه وسلم ولا اتفق الجميع عليه. الاستذكار ٢/ ١٣٧
وقال الإمام النووي: [وأما الجواب عن احتجاجهم بحديث أبي الدرداء فمن أوجه أحسنها أنه ضعيف مضطرب قاله البيهقي وغيره من الحفاظ، والثاني لو صح لحمل على ما تغسل به النجاسة وهذا جواب البيهقي وغيره، والثالث أنه يحتمل الوضوء لا بسبب القيء فليس فيه أنه توضأ من القيء والجواب عن حديث ابن جريج من أوجه أحسنها أنه ضعيف باتفاق الحفاظ وضعفه من وجهين: أحدهما أن رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج وابن جريج حجازي ورواية إسماعيل عن أهل الحجاز ضعيفة عند أهل الحديث والثاني أنه مرسل قال الحفاظ: المحفوظ في هذا أنه عن ابن جريج عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ممن قال ذلك الشافعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى الذهلي وعبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه وأبو زرعة وأبو أحمد بن عدي والدارقطني والبيهقي وغيرهم وقد بين الدارقطني والبيهقي ذلك أحسن بيان] المجموع ١/٥٥. وحديث ابن جريج الذي ذكره النووي وضعفه هو (إذا قاء أحدكم في صلاته أو قلس أو رعف فليتوضأ ثم ليبن على ما مضى ما لم يتكلم)
وقال شيخ لإسلام ابن تيمية: [والأظهر أنه لا يجب الوضوء من مس الذكر ولا النساء ولا خروج النجاسات من غير السبيلين ولا غسل الميت فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب لكن الاستحباب متوجه ظاهر] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ٢٠/٥٢٦.
وقال الشيخ ابن عثيمين مبيناً عدم نقض القيء للوضوء: [الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء قل أو كثر إلا البول والغائط وذلك أن الأصل عدم النقض فمن ادّعى خلاف الأصل فعليه الدليل وقد ثبتت طهارة الإنسان بمقتضى دليل شرعي وما ثبت بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يمكن رفعه إلا بدليل شرعي ونحن لا نخرج عما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأننا متعبدون بشرع الله لا بأهوائنا فلا يسوغ لنا أن نلزم عباد الله بطهارة لم تجب ولا أن نرفع عنهم طهارة واجبة. فإن قال قائل: قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ؟ قلنا: هذا الحديث قد ضعفه أكثر أهل العلم ثم نقول: إن هذا مجرد فعل ومجرد الفعل لا يدل على الوجوب لأنه خال من الأمر ثم إنه معارض بحديث وإن كان ضعيفاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ وهذا يدل على أن وضوءه من القيء ليس للوجوب. وهذا القول هو الراجح أن الخارج من بقية البدن لا ينقض الوضوء وإن كثر سواء كان قيئاً أو لعاباً أو دماً أو ماء جروح أو أي شيء آخر إلا أن يكون بولاً أو غائطاً مثل أن يفتح لخروجهما مكان من البدن فإن الوضوء ينتقض بخروجهما منه] فتاوى الطهارة ص١٩٨.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: [والصحيح أن الدم والقيء ونحوهما لا ينقض الوضوء قليلها ولا كثيرها لأنه لم يرد دليل بين على نقض الوضوء بها والأصل بقاء الطهارة وحديث: (إنه صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ) نهاية ما يدل عليه استحباب الوضوء لخروج القيء لأن الفعل الذي تجرد من الأمر يدل على الاستحباب] غاية المرام ٢/٢٦.
وقال الشيخ الألباني بعد أن ذكر حديث أبي الدرداء وصححه قال: [فائدة: استدل المصنف بالحديث على أن القيء ينقض الوضوء وقيده بما إذا كان فاحشاً كثيراً كل أحد بحسبه! وهذا القيد مع أنه لا ذكر له في الحديث البتة. فالحديث لا يدل على النقض إطلاقاً لأنه مجرد فعل منه صلى الله عليه وسلم والأصل أن الفعل لا يدل على الوجوب وغايته أن يدل على مشروعية التأسي به وأما الوجوب فلا بد له من دليل خاص وهذا مما لا وجود له هنا ولذلك ذهب كثير من المحققين إلى أن القيء لا ينقض الوضوء منهم شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى له وغيرها] إرواء الغليل ١/١٤٨.
وخلاصة الأمر أن القيء طاهر غير نجس وأنه ليس من نواقض الوضوء على الراجح من أقوال أهل العلم.