للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٦ - تبرج الجاهلية الأولى]

يقول السائل: ما المقصود بالجاهلية الأولى في قوله تعالى {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} ، أفيدونا؟

الجواب: قوله تعالى {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} ورد ضمن خطاب الله عز وجل لنساء النبي صلى الله عليه وسلم {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَءَاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} سورة الأحزاب الآيات ٣٢ - ٣٤.

والتبرج عند العلماء هو أن تظهر المرأة زينتها ومحاسنها مما يجب عليها ستره وذلك قوله تعالى {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال الإمام القرطبي [قوله تعالى {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق والتبرج التكشف والظهور للعيون] تفسير القرطبي ١٢/٣٠٩.

والتبرج من كبائر الذنوب باتفاق العلماء وقد عدَّ الشيخ ابن حجر المكي خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر والأدلة الشرعية تدل عليه، انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر ٢/٩٦- ٩٧. وقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المتبرجة بأنها لا تدخل الجنة ولا تشم رائحتها وهذا يدل على أن التبرج من الكبائر كما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) رواه مسلم، قال الإمام النووي: [... هذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع هذان الصنفان، وهما موجودان. وفيه ذم هذين الصنفين قيل: معناه كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها، وقيل: معناه تستر بعض بدنها، وتكشف بعضه إظهاراً بحالها ونحوه، وقيل: معناه تلبس ثوباً رقيقاً يصف لون بدنها. وأما (مائلات) فقيل: معناه عن طاعة الله، وما يلزمهن حفظه. (مميلات) أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم، وقيل: مائلات يمشين متبخترات، مميلات لأكتافهن. وقيل: مائلات يمشطن المشطة المائلة، وهي مشطة البغايا. مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة. ومعنى (رؤوسهن كأسنمة البخت) أن يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوهما] شرح النووي على صحيح مسلم ٥/٢٩١

وورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات) رواه أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم، وصححه ابن حبان والحاكم وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/٤٦٢.

وأما الجاهلية فقد ورد هذا اللفظ في الكتاب والسنة في عدة مواضع ومما يراد به الفترة التي سبقت الإسلام وما كان الناس عليه من أخلاق سيئة حينذاك كما في قوله تعالى {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية} سورة آل عمران الآية ١٥٤. وكما في قوله تعالى {أفحكم الجاهلية يبغون} سورة المائدة الآية ٥٠، وورد في السنة النبوية إشارات إلى أخلاق الجاهلية كما جاء في الحديث عن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها جاءت إلى رسول صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام فقال: أبايعك على ألا تشركي بالله شيئاً ولا تسرقي ولا تزني ولا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفتريه بين يديك ورجليك ولا تنوحي ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى.) رواه الإمام أحمد وصحح إسناده الشيخ أحمد محمد شاكر.

وقال بعض المفسرين إن الجاهلية الأولى يقابلها جاهلية ثانية والأولى كانت قبل الإسلام والثانية تكون بعده وهذا وجه حسن في تفسير الآية فلا شك أن من أهل الإسلام من يتخلق بأخلاق الجاهلية كما ورد في الحديث عن المعرور بن سويد قال مررنا بأبى ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله فقلنا يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة. فقال إنه كان بينى وبين رجل من إخوانى كلام وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه فشكانى إلى النبى صلى الله عليه وسلم فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) . قلت يا رسول الله من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم) رواه مسلم.

وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب) رواه مسلم.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من الأحاديث

وروى الطحاوي في مشكل الآثار عن ابن عباس قال: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى قال: كنا نقول: تكون جاهلية أخرى) .

وذكر ابن العربي عند تفسير قوله تعالى {الجاهلية الأولى} روي أن عمر رضي الله عنه سأل ابن عباس رضي الله عنه، فقال: أفرأيت قول الله تعالى: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} ؟ لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، هل كانت جاهلية غير واحدة، فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين؛ هل سمعت بأولى إلا لها آخرة، قال: فأتنا بما يصدق ذلك في كتب الله تعالى. فقال ابن عباس: إن الله تعالى يقول: {وجاهدوا في الله حق جهاده} جاهدوا كما جاهدتم أول مرة. فقال عمر: فمن أمر بأن نجاهد؟ قال: مخزوم وعبد شمس] أحكام القرآن لابن العربي ٣/١٥٣٧.

وقال الشوكاني: [ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى ما يقع في الإسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل فيكون المعنى: ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إسلامكن تبرجاً مثل تبرج الجاهلية التي كنتن عليها وكان عليها من قبلكن: أي لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشابه الجاهلية التي كانت من قبل] تفسير فتح القدير٤/ ٢٧٨.

وذكر الألوسي في تفسيره قول الزمخشري: يجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام فكأن المعنى ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر] تفسير الألوسي ١١/١٨٩.

وذكر أهل التفسير أن تبرج النساء في الجاهلية الأولى كان بمشيهن بتكسر وتغنج وتبختر أو تلقي المرأة خمارها على رأسها ولا تشده فلا يواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها، وتبرج الجاهلية الأولى لا يقاس مع العري الفاضح المنتشر في زماننا هذا، فيبدو أن ما كان يعد تبرجاً في الجاهلية الأولى يعتبر اليوم تستراً وحشمة في زماننا هذا!!!

وخلاصة الأمر أن النهي عن التبرج تبرج الجاهلية الأولى يكون بمنع المرأة من إظهار محاسنها وزينتها ويجب عليها ستر ما أمر الله تعالى بستره.

<<  <  ج: ص:  >  >>