السؤال: أحضر لي أحد طلبة العلم نشرة وزعت في بعض المساجد حول صلاة الظهر بعد الجمعة ذكر فيها كاتبها كلاماً كثيراً في المسألة وذكر عنواناً يقول: تاريخ صلاة الظهر بعد الجمعة في الإسلام، وما جاء بشيء يشير إلى العنوان السابق ثم ذكر أقوال المذاهب الأربعة في حكم تعدد الجمعة في البلد الواحد ثم خلص إلى القول [أخيراً أخي المسلم ينبغي أن نعلمك أن صلاة الظهر بعد الجمعة استنبطت من السنة المطهرة باحتياط المرء لدينه من قبل الأئمة الأربعة وهي مدونة في كتبهم جميعاً وكتب التاريخ وهي دائرة بينهم في فلك الواجب والمندوب حيث إنها لم تصل في زمنه صلى الله عليه وسلم وعصر الخلفاء الراشدين والتابعين من بعدهم إلا في مسجد واحد] وسألني طالب العلم عن صحة هذا الكلام. الجواب: إن مما ابتلي به المسلمون في هذا الزمان أن يتسور على العلم الشرعي من ليس له بأهل حتى صارت الفتوى في أمور الدين حمىً مستباحاً للذين ليس بينهم وبين العلم نسب ولا علاقة مودة أو قربى، إن ما جاء في هذه النشرة في جعل صلاة الظهر بعد الجمعة إما واجبة وإما مندوبة كلام باطل لم يقم عليه دليل والزعم بأن صلاة الظهر بعد الجمعة استنبطت من السنة المطهرة باحتياط المرء لدينه فرية عظيمة على السنة النبوية ولم يذكر الكاتب دليلاً واحداً من السنة يثبت صحة زعمه وأقول في رد هذه الفرية: يجب أن يعلم أن هذه المسألة وهي صلاة الظهر بعد الجمعة قد بنيت على مسألة أخرى وهي حكم تعدد الجمعة في البلد الواحد فأقول إن تعدد صلاة الجمعة في البلد الواحد جائز عند أهل العلم نظراً للحاجة الداعية إلى تعدد الجمعة فإذا كان البلد كبيراً وأهله كثير لا يسعهم مسجد واحد فلا مانع من تعدد الجمعة. وبهذا قال المحققون من العلماء من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم قال السرخسي:[والصحيح من قول أبي حنيفة في هذه المسالة أنه يجوز إقامة الجمعة في مصر واحد في موضعين وأكثر] المبسوط ٢/١٠٢. وقال الزيلعي شارحاً ومحللاً لقول النسفي:[وتؤدى في مصر في مواضع أي تؤدى الجمعة في مصر واحد في مواضع كثيرة وهو قول أبي حنيفة ومحمد وهو الأصح لأن في الاجتماع في موضع واحد في مدينة كبيرة حرجاً بيناً وهو مدفوع] تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ١/٢١٨. وأجاز فقهاء المالكية تعدد الجمعة للضرورة كما في شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه ٢/٧٤-٧٥. وذكر المام النووي أن الصحيح من مذهب الشافعية جواز تعدد الجمعة في موضعين وأكثر وقال: [وقد دخل الشافعي بغداد وهم يقيمون الجمعة في موضعين وقيل في ثلاثة فلم ينكر ذلك واختلف أصحابنا في الجواب عن ذلك وفي حكم بغداد في الجمعة على أربعة أوجه ذكر المصنف الثلاثة الأولى منها هنا وكلامه في التنبيه يقتضي الجزم بالرابع، أحدها أن الزيادة على جمعة في بغداد جائزة وإنما جازت لأنه بلد كبير يشق اجتماعهم في موضع منه قال أصحابنا فعلى هذا تجوز الزيادة على جمعة في جميع البلاد التي يكثر الناس فيها ويعسر اجتماعهم في موضع وهذا الوجه هو الصحيح وبه قال أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق المروزي، قال الرافعي: واختاره أكثر أصحابنا تصريحاً وتعريضاً وممن رجحه ابن كج والحناطي بالحاء المهملة والقاضي أبو الطيب في كتابه المجرد والروياني والغزالي وآخرون، قال الماوردي وهو اختيار المزني ودليله قوله تعالى:(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ] المجموع ٤/٥٨٥-٥٨٦. وقال الخرقي من الحنابلة:[وإذا كان البلد كبيراً يحتاج إلى جوامع فصلاة الجمعة في جميعها جائزة] وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً كلام الخرقي السابق: [وجملته: أن البلد متى كان يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد ويتعذر ذلك لتباعد أقطاره أو ضيق مسجده عن أهله كبغداد وأصبهان ونحوهما من الأمصار الكبيرة جازت إقامة الجمعة فيما يحتاج إليه من جوامعهما وهذا قول عطاء وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها، لأن الحدود تقام فيها في موضعين والجمعة حيث تقام الحدود، ومقتضى قوله: أنه لو وجد بلد آخر تقام فيه الحدود في موضعين جازت إقامة الجمعة في موضعين منه. لأن الجمعة حيث تقام الحدود وهذا قول ابن المبارك ... ولنا: أنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع كصلاة العيد. وقد ثبت أن علياً رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ويستخلف على ضَعَفَةِ الناس أبا مسعود البدري فيصلي بهم. فأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة جمعتين فلغناهم عن إحداهما ولأن أصحابه كانوا يرون سماع خطبته وشهود جمعته وإن بعدت منازلهم. لأنه المبلغ عن الله تعالى وشارع الأحكام ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن ولم ينكر فصار إجماعاً] المغني ٢/٢٤٨. وبهذا يظهر لنا أن المعتمد في المذاهب الأربعة جواز تعدد الجمعة للحاجة وهذا القول هو الصواب الموافق لقواعد الشرع المطهر ولعمل المسلمين فيما مضى من الأعصار في جميع الأمصار. وكيف يصنع المسلمون في المدن الكبيرة التي تغص بالسكان وقد يبلغ سكانها الملايين وكيف يجتمعون في مسجد واحد فمدينة كالقاهرة مثلاً فيها أكثر من عشرة ملايين نسمة، كيف يصلون في مكان واحد؟! إن نصوص الشريعة وقواعدها القاضية برفع الحرج ودفع المشقة تجيز تعدد الجمعة في مساجد كثيرة مهما بلغ عددها ما دامت الحاجة تدعو لذلك. إذا تقرر هذا نعود إلى مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة فأقول إن إقامة صلاة الظهر بعد الجمعة بدعة منكرة ليس لها أصل في الدين وهي تشريع لما لم يأذن به الله. ولم تثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن الأئمة المهديين وزعم كاتب النشرة أنها ثبتت بالسنة المطهرة زعم باطل ليس عليه أدنى دليل بل هو لم يقدم أي دليل على ذلك. وهذه البدعة وإن قال بها بعض متأخري أتباع المذاهب ليس عليها دليل صحيح فقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) رواه مسلم. وقد ثبت أن الإمام الشافعي رحمه الله قد دخل بغداد وأقام بها مدة من الزمن وكانت الجمعة تقام بأكثر من موضع ولم ينقل عنه أنه كان يصلي الظهر بعد الجمعة. القول المبين ص ٣٨٤. قال الشيخ القاسمي:[والذي اعتمده الإمام ابن نجيم والعلامة ابن عبد الحق الأخير ووافقه غيره من أن لا وجوب للظهر - أي بعد الجمعة - هو الحق لما فيه من رفع الحرج وهل يطالب مكلف بفريضتين في وقت واحد مع ما في أدائه جماعة من صورة نقض الجمعة وإيقاع العامة في اعتقاد أن ليوم الجمعة بعد زواله فرضين صلاة الجمعة وصلاة الظهر بل هو الذي لا يرتابون فيه ويزيدون عليه أنه لا يصح إلا جماعة بل تنطع بعض الغلاة المتصولحين مرة فقال لي: كيف السبيل إلى سنة الظهر القبلية قبل فرض يوم الجمعة وهي تفوتني بعجلة أداء الظهر. فتأمل كيف رحم الله العباد ففرض عليهم ركعتين في ذلك اليوم وأمرهم إذا قضوهما أن ينتشروا في الأرض ويبتغوا من فضله تيسيراً عليهم إذ يحتاجون لصرف حصة في سماع الخطبة، وانظر كيف شددوا على أنفسهم وربما المتنطع منهم يطالب بأداء اثنتين وعشرين ركعة بعد الزوال إذا يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً كالظهر وكلاهما مع الجمعة عشر، ثم يتطوع بأربع قبل الظهر وأربع بعدها وكلاهما مع الظهر اثنا عشر أيضاً، فالجملة ما ذكرنا ولا يخفى أن محو اعتقاد غير الصواب من صدور العامة لتمحيص الحق باب عظيم من أبواب الدعوة إلى سبيل الله وهدى نبيه عليه السلام، وقد اتفق في عهد حسين باشا والي مصر المذاكرة لديه في بدعة الظهر جماعة بعد الجمعة فمنع أهل الأزهر منها، نقله الشبراملسي في رسالته التي ألفها في سبب صلاة الظهر يومئذ فرحمه الله على منعه من هذه البدعة وأثابه خيراً ووفق من تنبه لمنعها بمنّه وكرمه] إصلاح المساجد ص ٥٠-٥١. وقال الشيخ الغلايني: [ومن الأدلة على عدم طلب الظهر بعد الجمعة بل على عدم مشروعيتها يوم الجمعة مطلقاً صليت الجمعة أم لم تصل ما ورد من اجتماع عيد وجمعة في عهد الرسول الأكرم فصلى العيد ورخص في الجمعة ولم يرد أنه أمرهم بالظهر لأنه لم يثبت ذلك وهاك النصوص: عن زيد بن أرقم رضي الله عنه وسأله معاوية: (هل شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا؟ قال: نعم، صلى العيد أول النهار ثم رخص في الجمعة فقال: من شاء أن يجمع فليجمع) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزئه من الجمعة وإنا مجمعون) رواه أبو داود وابن ماجة. وعن وهب بن كيسان قال:(اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار ثم خرج فخطب ثم نزل ثم صلى ولم يصل للناس بوم الجمعة فذكرت ذلك لابن عباس فقال: أصاب السنة) رواه النسائي وأبو داود بنحوه لكن من رواية عطاء. ولأبي داود عن عطاء قال:(اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر على ابن الزبير في يوم واحد فجعلهما جميعاً فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر) .
فهذه الأحاديث ناطقة بلسان فصيح على منبر الحق بأنه لا ظهر بعد الجمعة بل إن الظهر لم تشرع ذلك اليوم أقيمت الجمعة أم لم تقم] البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة ص ١٣٨-١٣٩. وأما ما احتج به بعضهم على مشروعية الظهر بعد الجمعة بأن الجمعة لمن سبق فقد قال الشيخ الألباني:[وأما ما اشتهر على الألسنة في هذه الأزمنة وهو قولهم الجمعة لمن سبق فلا أصل له في السنة وليس بحديث وإنما هو رأي لبعض الشافعية ظنه من لا علم عنده حديثاً نبوياً] الأجوبة النافعة ص ٤٦. وقال د. وهبة الزحيلي:[وينبغي العمل على منع الظهر بجماعة بعد الجمعة حفاظاً على وحدة المسلمين ولا يصح قياس حالة البلدان وكثرة سكانها على حالة المدينة في صدر الإسلام حيث كان المسلمون قلة والخليفة خطيب المسلمين وخبره وسيلة إعلام جميع المسلمين في الجهاد وعلاج أزمة القحط والوباء ونحو ذلك من الأحداث الكبرى] الفقه الإسلامي وأدلته ٢/٣١١.