[٨٥ - اللقطة]
يقول السائل: إنه صاحب محل تجاري وقد وجد ولده مبلغاً كبيراً من المال (أوراق نقدية) في المحل فقام الولد بتمزيق بعض الأوراق النقدية ثم جاء شخص وقال إنه فقد المبلغ وأعطى صفته فهل على صاحب المحل ضمان ما أتلفه ولده من الأوراق النقدية؟
الجواب: يسمى المال الضائع من صاحبه ويجده غيره لقطة والأصل في اللقطة التعريف بها والإعلان عنها إن كانت ذات قيمة وأما الأمور التافهة التي يسرع إليها الفساد كالثمار ونحوها فلا يحتاج إلى التعريف بها والإعلان عنها ويجوز لملتقطها أن ينتفع بها فقد ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق فقال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) رواه البخاري ومسلم
فهذا الحديث يدل على جواز أخذ المحقرات في الحال، قال الحافظ ابن حجر: [قوله صلى الله عليه وسلم:
(لأكلتها) ظاهر في جواز أكل ما يوجد من المحقرات ملقى في الطرقات لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لم يمتنع عن أكلها إلا تورعاً لخشية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه لا لكونها مرمية في الطريق فقط ... ولم يذكر تعريفاً فدل ذلك على أن مثل ذلك يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف] فتح الباري ٥/١٠٧-١٠٨. وقال الإمام الترمذي: [وقد رخص بعض أهل العلم إذا كانت اللقطة يسيرة أن ينتفع بها ولا يعرفها وقال بعضهم إذا كان دون دينار يعرفها قدر جمعة وهو قول اسحق بن إبراهيم] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي ٤/٥١٨.
ويرى بعض أهل العلم أن الأمور الحقيرة التي لا يسرع إليها الفساد تعرف ثلاثة أيام واحتجوا على ذلك بما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من التقط لقطة يسيرة حبلاً أو درهماً أو شبه ذلك فليعرفها ثلاثة أيام فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام فإن جاء صاحبها وإلا فليتصدق بها) رواه أحمد والطبراني والبيهقي وفي سنده كلام لأهل العلم قال الشوكاني: [وفي إسناده عمر بن عبد الله بن يعلى وقد صرح جماعة بضعفه ولكنه قد أخرج له ابن خزيمة متابعة وروى عنه جماعات. وزعم ابن حزم أنه مجهول وزعم هو وابن القطان أن يعلى وحكيمة التي روت هذا الحديث عن يعلى مجهولان. قال الحافظ: وهو عجب منهما لأن يعلى صحابي معروف الصحبة قال ابن رسلان: ينبغي أن يكون هذا الحديث معمولاً به لأن رجال إسناده ثقات وليس فيه معارضة للأحاديث الصحيحة بتعريف سنة لأن التعريف سنة هو الأصل المحكوم به عزيمة وتعريف الثلاث رخصة تيسيراً للملتقط لأن الملتقط لليسير يشق عليه التعريف سنة مشقة عظيمة بحيث يؤدي إلى أن أحداً لا يلتقط اليسير والرخصة لا تعارض العزيمة بل لا تكون إلا مع بقاء حكم الأصل كما هو مقرر في الأصول ويؤيد تعريف الثلاث ما رواه عبد الرزاق عن أبي سعيد: (أن علياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وجده في السوق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرفه ثلاثاً ففعل فلم يجد أحداً يعرفه فقال: كله) وينبغي أيضاً أن يقيد مطلق الانتفاع المذكور في حديث الباب بالتعريف بالثلاث المذكور فلا يجوز للملتقط أن ينتفع بالحقير إلا بعد التعريف به ثلاثاً حملاً للمطلق على المقيد وهذا إذا لم يكن ذلك الشيء الحقير مأكولاً فإن كان مأكولاً جاز أكله ولم يجب التعريف به أصلاً كالتمرة ونحوها لحديث أنس المذكور لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أنه لم يمنعه من أكل التمرة إلا خشية أن تكون من الصدقة ولولا ذلك لأكلها وقد روى ابن أبي شيبة عن ميمونه زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها وجدت تمرة فأكلتها وقالت: لا يحب الله الفساد قال في الفتح: يعني أنها لو تركتها فلم تؤخذ فتؤكل لفسدت قال: وجواز الأكل هو المجزوم به عند الأكثر. ويمكن أن يقال إنه يقيد حديث التمرة بحديث التعريف ثلاثاً كما قيد به حديث الانتفاع ولكنها لم تجر للمسلمين عادة بمثل ذلك وأيضاً الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم (لأكلتها) أي في الحال ويبعد كل البعد أن يريد صلى الله عليه وسلم لأكلتها بعد التعريف ثلاثاً وقد اختلف أهل العلم في مقدار التعريف بالحقير فحكى في البحر عن زيد بن علي والناصر والقاسمية والشافعي أنه يعرف به سنة كالكثير وحكى عن المؤيد بالله والإمام يحيى وأصحاب أبي حنيفة أنه يعرف به ثلاثة أيام واحتج الأولون بقوله صلى الله عليه وسلم (عرفها سنة) قالوا: ولم يفصل. واحتج الآخرون بحديث يعلى بن مرة وحديث علي وجعلوهما مخصصين لعموم حديث التعريف سنة وهو الصواب لما سلف] نيل الأوطار ٥/٣٧٩-٣٨٠.
وأما الأمور ذات القيمة فيجب تعريفها لمدة سنة كما ثبت في الحديث عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: أصبت صرة فيها مئة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عرفها حولاً فعرفتها حولاً فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال: عرفها حولاً فعرفتها فلم أجد ثم أتيته ثلاثاً فقال: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فاستمتعت بها فلقيته بعد بمكة فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولاً واحداً) رواه البخاري.
وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال: (اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها قال: فضالة الغنم قال: لك أو لأخيك أو للذئب قال: فضالة الإبل؟ قال: مالك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها) رواه مسلم. والعفاص هو الوعاء الذي يكون فيه المال والوكاء هو الخيط الذي يشد به الوعاء.
وفي رواية لمسلم عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة الذهب أو الورق فقال: (اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه) وسأله عن ضالة الإبل فقال: (مالك ولها؟ دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها) وسأله عن الشاة فقال: (خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) . قال الإمام النووي [وأما التعريف سنة فقد أجمع المسلمون على وجوبه إذا كانت اللقطة ليست تافهة ولا في معنى التافهة ... ولا بد من تعريفها سنة بالإجماع] شرح النووي على صحيح مسلم ٤/٣٨٦. ثم قال الإمام النووي: [والتعريف أن ينشدها في الموضع الذي وجدها فيه وفي الأسواق وأبواب المساجد ومواضع اجتماع الناس فيقول: من ضاع منه شيء؟ من ضاع منه حيوان؟ من ضاع منه درهم؟ ونحو ذلك ويكرر ذلك بحسب العادة قال أصحابنا: فيعرفها أولاً في كل يوم ثم في الأسبوع ثم في أكثر منه] المصدر السابق ٤/٣٨٦-٣٨٧.
والتعريف باللقطة إذا كانت ذات قيمة واجب على الراجح من أقوال أهل العلم قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فإنه واجب على كل ملتقط سواء أراد تملكها أو حفظها لصاحبها وقال الشافعي: لا تجب على من أراد حفظها لصاحبها. ولنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به زيد بن خالد وأبي بن كعب ولم يفرق ولأن حفظها لصاحبها إنما يقيد بإيصالها إليه وطريقه التعريف أما بقاؤها في يد الملتقط من غير وصولها إلى صاحبها فهو وهلاكها سيان ولأن إمساكها من غير تعريف تضييع لها عن صاحبها فلم يجز كردها إلى موضعها أو إلقائها في غيره ولأنه لو لم يجب التعريف لما جاز الالتقاط لأن بقاءها في مكانها إذاً أقرب إلى وصولها إلى صاحبها إما بأن يطلبها في الموضع الذي ضاعت فيه فيجدها وإما بأن يجدها مع من يعرفها وأخذه لها يفوت الأمرين فيحرم فلما جاز الالتقاط وجب التعريف كيلا يحصل هذا الضرر ولأن التعريف واجب على من أراد تملكها فكذلك على من أراد حفظها فإن التمليك غير واجب فلا تجب الوسيلة إليه فيلزم أن يكون الوجوب في المحل المتفق عليه لصيانتها عن الضياع عن صاحبها وهذا موجود في محل النزاع] المغني ٦/٧٤.
إذا تقرر هذا فإن العلماء قد اتفقوا على أن يد الملتقط يد أمانة فإذا تلفت اللقطة عنده أثناء الحول بلا تعدٍ منه ولا تقصير فلا ضمان عليه وأما إذا تعدى أو قصّر فعليه الضمان.
وفي السؤال فإن ابن صاحب المحل قد تعدّى بتمزيقه الأوراق النقدية فلا بد من ضمانها وإن كان الملتقط صبياً. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إن الصبي والمجنون والسفيه إذا التقط أحدهم لقطة ثبتت يده عليها لعموم الأخبار ولأن هذا تكسب فصح منه كالاصطياد والاحتطاب وإن تلفت في يده بغير تفريط فلا ضمان عليه لأنه أخذ ما له أخذه وإن تلفت بتفريطه ضمنها في ماله وإذا علم بها وليه لزمه أخذها لأنه ليس من أهل الحفظ والأمانة فإن تركها في يده ضمنها لأنه يلزمه حفظ ما يتعلق به حق الصبي وهذا يتعلق به حقه فإذا تركها في يده كان مضيعاً لها] المغني ٦/١٠٠.
وخلاصة الأمر أن على ولي الصبي ضمان ما أتلفه ولده من المال الملتقط.