للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٢ - حكم الإحرام بالحج أو العمرة من القدس]

يقول السائل: نويت الحج هذا العام وأرغب أن أحرم من المسجد الأقصى المبارك حيث إنني سمعت حديثاً في فضل الإحرام من بيت المقدس، فما حكم ذلك، أفيدونا؟

الجواب: اتفق جماهير أهل العلم على جواز الإحرام بالنسك، حجاً أو عمرة، قبل المواقيت المكانية التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمن أهله، حتى أهل مكة يهلون منها) رواه البخاري ومسلم، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير محرماً، وتثبت في حقه أحكام الإحرام] المغني ٣/٢٥٠. إلا أن أهل الظاهر منعوا الإحرام قبل المواقيت مطلقاً، وقولهم مرجوح، قال الإمام النووي: [أجمع من يُعْتد به من السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم على أنه يجوز الإحرام من الميقات ومما فوقه، وحكى العبدري وغيره عن داود – الظاهري - أنه قال: لا يجوز الإحرام مما فوق الميقات، وأنه لو أحرم مما قبله لم يصح إحرامه، ويلزمه أن يرجع ويحرم من الميقات، وهذا الذي قاله مردود عليه بإجماع من قبله] المجموع ٧/٢٠٠. ومع اتفاق جمهور الفقهاء على جواز الإحرام قبل المواقيت المكانية إلا أنهم اختلفوا في الأفضل، هل هو الإحرام من المواقيت؟ أم الإحرام من بلد مريد الحج؟ والمسألة محلُ خلافٍ بين أهل العلم، والراجح أن الإحرام من الميقات أفضل، وبه قال المالكية والشافعية في أصح القولين عندهم والحنابلة، وقد كره عمر وعثمان رضي الله عنهما أن يحرم أحدٌ قبل الميقات، فقد ورد (أن عمران بن الحصين رضي الله عنه أحرم من مصره، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فغضب وقال: يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من مصره) رواه البيهقي في السنن الكبرى والطبراني في الكبير، وروى البخاري تعليقاً أن عثمان رضي الله عنه كره أن يُحرم من خراسان أو كرمان) ، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وصله سعيد بن منصور ... أن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: أحرم عبد الله بن عار من خراسان، فقدم على عثمان فلامه وقال: غزوتَ وهانَ عليك نُسُكك، وروى أحمد بن سيار في " تاريخ مرو " من طريق داود بن أبي هند قال: لما فتح عبد الله بن عامر خراسان قال: لأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي هذا محرماً، فأحرم من نيسابور، فلما قدم على عثمان لامه على ما صنع. وهذه أسانيد يقوي بعضها بعضاً] فتح الباري ٣/٥٣٠.

ولا شك أن الاقتداء بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأهدى، فقد أحرم الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من ذي الحليفة – آبار علي- كما هو ثابت في السنة النبوية، وهكذا فعل صحابته رضوان الله عليهم، فقد كانوا يحرمون من المواقيت، قال الإمام البخاري في صحيحه: (باب فرض مواقيت الحج والعمرة) ثم روى عن زيد بن جبير أنه أتى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في منزله وله فسطاط وسرادق، فسألته من أين يجوز أن أعتمر؟ قال فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجدٍ قرناً، ولأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة) ثم قال الإمام البخاري: (باب ميقات أهل المدينة، ولا يُهلون قبل ذي الحليفة) ثم روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يُهل أهلُ المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجدٍ من قَرْن. قال عبد الله وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويهل أهل اليمن من يلملم) صحيح البخاري ٣/٤٨٢، ٤٨٨. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وهذا التوقيت يقتضي نفي الزيادة والنقص، فإن لم تكن الزيادة محرمةً، فلا أقلَّ من أن يكون تركها أفضل] شرح العمدة ٥/١٢٩. وقد سئل الإمام مالك رحمه الله حيث أتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل. فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال أزيدها! قال: وأي فتنةٍ أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصَّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت الله يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} . ذكر هذا الأثر عن الإمام مالك الشيخ ابن العربي في أحكام القرآن ٣/٤٣٢، والإمام الشاطبي في الاعتصام ١/١٣١ـ١٣٢. وقال الإمام النووي: [والأصح على الجملة أن الإحرام من الميقات أفضل للأحاديث الصحيحة المشهورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم في حجته من الميقات، وهذا مجمعٌ عليه، وأجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد وجوب الحج ولا بعد الهجرة غيرها، وأحرم صلى الله عليه وسلم عام الحديبية بالعمرة من ميقات المدينة ذي الحليفة، رواه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي، وكذلك أحرم معه صلى الله عليه وسلم بالحجة المذكورة والعمرة المذكورة أصحابه من الميقات، وهكذا فعل بعده صلى الله عليه وسلم أصحابه والتابعون وجماهير العلماء وأهل الفضل، فترك النبي صلى الله عليه سلم الإحرام من مسجده الذي صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وأحرم من الميقات فلا يبقى بعد هذا شكٌ في أن الإحرام من الميقات أفضل] المجموع ٧/٢٠١.

إذا تقرر هذا فأعود للحديث الذي أشار إليه السائل في فضيلة الإحرام من بيت المقدس، وهو عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أهلَّ بحجٍ أو عمرةٍ من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، غُفِر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة) رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وأحمد، وهذا الحديث ضعيف، ضعفه البخاري والمنذري وابن حزم والنووي وابن كثير وابن القيم والحافظ ابن حجر وغيرهم، قال الشيخ ابن حزم: [واحتج من رأى هذا – أي جواز الإحرام قبل الميقات - بما روينا من طريق أبي داود ... عن أم سلمة أم المؤمنين أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أهلَّ بحجةٍ أو عمرةٍ من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة) شك عبد الله أيهما قال، ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ... عن أم حكيم بنت أمية عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أهلَّ بعمرةٍ من بيت المقدس غُفر له) . قال عليٌ – أي ابن حزم -: أما هذان الأثران، فلا يشتغل بهما من له أدنى علم بالحديث، لأن يحيى بن أبي سفيان الأخنسي، وجدته حكيمة، وأم حكيم بنت أمية لا يُدرى من هم من الناس، ولا يجوز مخالفة ما صح بيقينٍ، بمثل هذه المجهولات التي لم تصح قط] المحلى ٥/٥٩-٦٠.

وقد ضعف الحديث السابق العلامة الألباني حيث فصلَّ الكلام عليه فقال: [ضعيف، أخرجه أبو داود وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وأحمد من طريق حكيمة عن أم سلمة مرفوعاً. قال ابن القيم في تهذيب السنن: قال غير واحد من الحفاظ: إسناده غير قوي. قلت: وعلته عندي حكيمة هذه فإنها ليست بالمشهورة، ولم يوثقها غير ابن حبان وقد نبهنا مراراً على ما في توثيقه من التساهل، ولهذا لم يعتمده الحافظ فلم يوثقها، وإنما قال في التقريب: مقبولة، يعني عند المتابعة، وليس لها متابع هاهنا فحديثها ضعيف غير مقبول، هذا وجه الضعف عندي، وأما المنذري فأعله بالاضطراب فقال في مختصر السنن وقد اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافاً كثيراً، وكذا أعله بالاضطراب الحافظ ابن كثير كما في نيل الأوطار. ثم إن المنذري كأنه نسي هذا فقال في الترغيب والترهيب: رواه ابن ماجة بإسناد صحيح! وأنى له الصحة وفيه ما ذكره هو وغيره من الاضطراب، وجهالة حكيمة عندنا؟! ثم إن الحديث قال السندي وتبعه الشوكاني: يدل على جواز تقديم الإحرام على الميقات. قلت: كلا، بل دلالته أخص من ذلك، أعني أنه إنما يدل على أن الإحرام من بيت المقدس خاصة أفضل من الإحرام من المواقيت، وأما غيره من البلاد فالأصل الإحرام من المواقيت المعروفة وهو الأفضل كما قرره الصنعاني في سبل السلام، وهذا على فرض صحة الحديث، أما وهو لم يصح كما رأيت، فبيت المقدس كغيره في هذا الحكم ... ] سلسلة الأحاديث الضعيفة ١/٢٤٨-٢٤٩. ويضاف إلى ما سبق، أن الإحرام قبل الميقات، كالإحرام من بيت المقدس، فيه نوع حرج وتضييق على المحرم، حيث تطول مدة الإحرام، وقد يلحق الأذى والضرر بالمحرم، كما لو كان الفصل شتاءً، وكما أن الإنسان لا يخلو من الوقوع في الذنوب، فإذا وقع في الذنب وهو محرم كان الذنب عظيماً، قال عطاء من كبار التابعين: [انظروا هذه المواقيت التي وُقتت لكم فخذوا برخصة الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدُكم ذنباً في إحرامه، فيكون أعظم لوزره، فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك] المغني ٥/٢٥١.

وخلاصة الأمر أن الإحرام من المواقيت المكانية المعروفة هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحرم منها الصحابة ومنهم الخلفاء الراشدون وغيرهم من التابعين، فالخير كل الخير في إتباعهم، والحديث الوارد في فضل الإحرام من المسجد الأقصى أو من بيت المقدس حديث ضعيف عند المحدثين، لذا أنصح الحجاج والمعتمرين أن يحرموا من المواقيت التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>