يقول السائل: لدينا وقفية وقد شرط الواقف فيها إعطاء الذكور من ورثته دون الإناث فما الحكم في هذا الشرط؟
الجواب: الوقف قربة يتقرب بها الواقف إلى الله سبحانه وتعالى وهو داخل في عموم النصوص التي تحث على أفعال البر كما في قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) سورة البقرة الآية ٢٦٧. وقوله تعالى:(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) سورة آل عمران الآية ٩٢ ويدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه البخاري ومسلم وثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث وتصدق بها في الفقراء وفي القربي وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول) رواه البخاري ومسلم. وجاء في رواية أخرى أن عمر رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم:(إن المئة سهم التي بخيبر لم أصب مالاً قط أعجب إليَّ منها وقد أردت أن أتصدق بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احبس أصلها وسبل ثمرتها) رواه النسائي وابن ماجة والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الألباني في إرواء الغليل ٦/٣١. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علَّمه ونشره وولداً صالحاً تركه ومصحفاً ورَّثه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه بعد موته) رواه ابن ماجة وابن خزيمة وهو حديث حسن كما قال الألباني، صحيح سنن ابن ماجة ١/٤٦. وغير ذلك من النصوص. إذا تقرر هذا فنعود إلى ما ذكره السائل من شرط الواقف بحرمان البنات من وقفيتة فأقول إن كثيراً من الواقفين للوقفيات الأهلية أو الذرية يشترطون شروطاً لا تقرها الشريعة الإسلامية ومن ذلك حرمان البنات وهذا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية التي أوجبت العدل بين الذكور والإناث من المعلوم عند أهل العلم أن الإنسان ليس حراً فيما يشترطه من شروط في عقوده ومعاملاته بل لا بد أن تكون هذه الشروط لا تتعارض مع قواعد الشريعة وأصولها، قال الإمام البخاري في صحيحه:[باب المكاتب وما لا يحل من الشروط التي تخالف كتاب الله ... وقال ابن عمر أو عمر: كل شرط خالف كتاب الله فهو باطل وإن اشترط مئة شرط] ثم روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أتتها بريرة تسألها في كتابها فقالت: إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرته ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ابتاعيها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق. ثم قام رسول الله على المنبر فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله! فمن اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مئة شرط) رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر:[وأن المراد ما خالف كتاب الله ثم استظهر على ذلك بما نقله عن عمر أو ابن عمر وتوجيه ذلك أن يقال المراد بكتاب الله في الحديث المرفوع حكمه وهو أعم من أن يكون نصاً أو مستنبطاً فكل ما كان ليس من ذلك فهو مخالف لما في كتاب الله] فتح الباري ٦/٢٨٢. ولا شك أن اشتراط حرمان الإناث من الوقفية مخالف للأحكام الشرعية التي أمرت بالعدل بين الأبناء فعن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: (أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة - أم النعمان -: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال فرجع فرد عطيته) رواه البخاري. وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان:(لا تشهدني على جور أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء. قال: نعم. قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسند صحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن وغير ذلك من الأحاديث. فبناءً على ذلك فيجب إبطال هذا الشرط لمعارضته للشريعة كما سلف ولا ينبغي التمسك بما قرره الفقهاء أن شرط الواقف كنص الشارع حيث إن بعض الفقهاء اعتبروا هذه القاعدة موجبة لتنفيذ شروط الواقفين وأنه يجب العمل بها مهما كانت وإن خالفت الشرع وهذا غير مسلم وغير مقبول. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:[وقد اتفق المسلمون على أن شروط الواقف تنقسم إلى صحيح، وفاسد، كالشروط في سائر العقود ومن قال من الفقهاء: إن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع، فمراده أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف لا في وجوب العمل بها أي أن مراد الواقف يستفاد من ألفاظه المشروطة كما يستفاد مراد الشارع من ألفاظه فكما يعرف العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والتشريك والترتيب في الشرع من ألفاظه الشارع فكذلك تعرف في الوقف من ألفاظ الواقف. مع أن التحقيق في هذا أن لفظ الواقف ولفظ الحالف والشافع والموصي وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، سواء وافقت العربية العرباء أو العربية المولدة أو العربية الملحونة أو كانت غير عربية وسواء وافقت لغة الشارع أو لم توافقها فإن المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطقين بها فنحن نحتاج إلى معرفة كلام الشارع لأن معرفة لغته وعرفه وعادته تدل على معرفة مراده وكذلك في خطاب كل أمة وكل قوم فإذا تخاطبوا بينهم في البيع والإجارة أو الوقف أو الوصية أو النذر أو غير ذلك بكلام رجع إلى معرفة مرادهم وإلى ما يدل على مرادهم من عادتهم في الخطاب وما يقترن بذلك من الأسباب. وأما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها فهذا كفر باتفاق المسلمين إذ لا أحد يطاع في كل ما يأمر به من البشر - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - والشروط إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة. وإن خالفت كتاب الله كانت باطلة كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب على منبره وقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل. وإن كان مئة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق] مجموع الفتاوى ٣١/٤٧-٤٨.
وقال العلامة ابن القيم:[فالصواب الذي لا تسوغ الشريعة غيره عرض شرط الواقفين على كتاب الله سبحانه وعلى شرطه، فما وافق كتابه وشرطه فهو صحيح وما خالفه كان شرطاً باطلاً مردوداً ولو كان مئة شرط وليس ذلك بأعظم من رد حكم الحاكم إذا خالف حكم الله ورسوله ومن رد فتوى للمفتي وقد نص الله سبحانه على رد وصية الجانف في وصيته والآثم فيها مع أن الوصية تصح في غير قربة وهي أوسع من الوقف وقد صرح صاحب الشرع برد كل عمل ليس عليه أمره فهذا الشرط مردود بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لأحد أن يقبله ويعتبره ويصححه ... معنى قولهم: شرط الواقف كنص الشارع ثم إن العجب العجاب قول من يقول إن شروط الواقف كنصوص الشارع ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول ونعتذر مما جاء به قائله ولا نعدل بنصوص الشارع غيرها أبداً وإن أحسن الظن بقائل هذا القول حمل كلامه على أنها كنصوص الشارع في الدلالة وتخصيص عامها بخاصها وحمل مطلقها على مقيدها واعتبار مفهومها كما يعتبر منطوقها وأما أن تكون كنصوصه في وجوب الإتباع وتأثيم من أخل بشيء منها فلا يظن ذلك بمن له نسبه ما إلى العلم فإذا كان حكم الحاكم ليس كنص الشارع بل يرد ما خالف حكم الله ورسوله من ذلك فشرط الواقف إذا كان كذلك كان أولى بالرد والإبطال] إعلام الموقعين ١/٣١٥-٣١٦. وقال العلامة صديق حسن خان:[والحاصل أن الأوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل ومخالفة فرائض الله - عز وجل - فهي باطلة من أصلها لا تنعقد بحال. وذلك كمن يقف على ذكور أولاده دون إناثهم وما أشبه ذلك فإن هذا لم يرد التقرب إلى الله تعالى بل أراد المخالفة لأحكام الله عز وجل والمعاندة لما شرعه لعباده وجعل هذا الوقف الطاغوتي ذريعة إلى ذلك المقصد الشيطاني فليكن هذا منك على ذكر فما أكثر وقوعه في هذه الأزمنة] التعليقات الرضية ٢/٥١٥-٥١٦. وخلاصة الأمر أنه ينبغي إبطال الشرط بحرمان البنات من الوقفية وإذا لم يمكن الإلغاء أمام المحكمة الشرعية فالمطلوب هو أن يصطلح المنتفعون بالوقفية على إلغاء الشرط.