ففي عهد المتوكل بعد الواثق ـ وهو أبو الفضل جعفر بن المعتصم، وكانت ولايته في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ـ خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد، وطعن عليهم فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن، ونهى عن الجدال والمناظرة في الآراء وعاقب عليهما، وأمر بإظهار الرواية للحديث فأظهر الله به السنة، وأمات به البدعة، وكشف عن الخلق تلك الغمة، وأنار به تلك الظلمة، وأطلق من كان قد اعتقل بسبب القول بخلق القرآن، ورفع المحنة عن الناس فاستبشر الناس بولايته، وأمر بالقبض على محمد بن عبد الملك الزيات الوزير، ووضعه في تنور إلى أن مات، وذلك في سنة ثلاث ومائتين، وابتلى الله أحمد بن أبي دؤاد بالفالج بعد موت الوزير بسبعة وأربعين يوما، فولي القضاء مكانه ولده أبو الوليد محمد، فلم تكن طريقته مرضية، وكثر ذاموه، وقل شاكروه، ثم سخط المتوكل على أحمد بن دؤاد وولده محمد في سنة تسع وثلاثين ومائتين، وأخذ جميع ضياع الأب وأمواله من الولد؛ مائة وعشرين ألف دينار وجواهر بأربعين ألف دينار، وسيره من بغداد من سر من رأى، وولى القضاء يحيى بن أكثم قاضي القضاة، فإنه كان من أئمة الدين وعلماء السنة، ثم مات أحمد بن أبي دؤاد بمرض الفالج في المحرم سنة أربعين ومائتين، ومات ولده محمد قبله بعشرين يوما، وكان بشر المريسي قد أهلكه الله ومات في ذي الحجة سنة ثماني عشرة، وقيل: تسع عشرة ومائتين.
وقد أقبلت الدنيا على الإمام أحمد وهو زاهد فيها، لا يريد منصبا ولا جاها، ولا يريد طعاما فاخرا، أو خلعة سنية، أو مسكنا شاهقا في الدنيا الدنية، وهو يريد أخرى فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لا يريد بعد صبره الطويل في محنته أن يبيع الآجلة بالعاجلة؛ إنه يرفض عطايا السلطان حتى لا يوجده عليه، ولكنه يتصدق بها، ويأتيه طعام الخليفة المتوكل الخاص فلا يأكل منه لقمة، رغم فقره المدقع، ولكن الغني غنى النفس؛ فيا لها من نفس أبية غنية!.
وعظمت مكانة الإمام أحمد لدى الخليفة المتوكل؛ فكان لا يولي أحدا إلا بمشورته، "ومكث الإمام إلى حين وفاته قل أن يأتي يوم إلا ورسالة الخليفة تنفذ إليه في أمور يشاوره فيها ويستشيره، رحمهما الله ورضي عنهما"