وهكذا خرج من الاختبار رجلا صالحا، وقد تنوعت طرائق الاختبار، اختبره المأمون بالقيد، فساقه إليه مقيدا مغلولا يثقله الحديد مع بعد الشقة وعظم المشقة، واختبره المعتصم بالحبس والضرب، واختبره الواثق بالمنع والتضييق، فما نالوا من نفسه وما يعتقد، وبعد تلك البلايا ابتلي بالبلاء الأكبر، فساق إليه المتوكل بالنعم، فردها وهو عيوف النفس، وكان يشد على بطنه من الجوع، ولا يتناول مما يشك في حله أو يتورع منه، ثم ابتلي أحمد بعد كل هذا بأعظم بلاء ينزل بالنفس البشرية، وهو إعجاب الناس؛ فقد ابتلي بعد أن انتصر على كل الرزايا بإعجاب الناس، فما أورثه ذلك عجبا ولا ولاه بغرور، بل كان المؤمن المحتسب المتواضع لعزة الله وجلاله الذي لم يأخذه الثناء، وبذلك نجح في أعظم البلاء رحمه الله تعالى.
[فضل ثبات أحمد بن حنبل في المحنة على المسلمين]
إن ثبات الإمام أحمد في المحنة صَوَّرَ تلك البطولة الفذة في مواجهة الجيوش الخاسرة أبدع تصوير وأصدقه، صور الزبد والحق؛ (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ)[الرعد: ١٧]
، صور الجبروت والإيمان، صور سيف الحق، صور سجن الدار وحرية النفس، صور قيد الحديد وانطلاق القلب واللسان، صور أن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، صور واجب العلماء في مواجهة المنكر.
لقد كان ثبات الإمام أحمد في المحنة دليل الحيران في هذا الزمان، ومصباح الرشاد في بحر الظلمات، وكان نشره اليوم إسهاما في الدعوة إلى الله، ورسما للسلوك القويم، وما ينبغي أن يكون عليه الداعية من ثبات في العقيدة وقوة في الإيمان وصلابة في الحق"
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن إسحاق بن راهويه قال: حدثني أبي قال قال لي أحمد ابن حنبل تعال حتى أريك من لم ير مثله فذهب بي إلى الشافعي قال أبي وما رأى الشافعي مثل أحمد بن حنبل ولولا أحمد وبذل نفسه لذهب الإسلام يريد المحنة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المديني قال أعز الله الدين بالصديق يوم الردة وبأحمد يوم المحنة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن هلال بن العلاء يقول: شيئان لو لم يكونا في الدنيا لاحتاج الناس إليهما، محنة أحمد بن حنبل، لولاها لصار الناس جهمية، ومحمد بن إدريس الشافعي فإنه فتح للناس الأقفال.