[*] ورأى بعض السلف جامعاً في بعض الأمصار فقال: أدركت هذا المسجد مبنياً من الجريد والسعف، ثم رأيته من رهص، ثم رأيته الآن مبنياً باللبن، فكان أصحاب السعف خيراً من أصحاب الرهص خير من أصحاب اللبن.
وكان من السلف من يبني داره مراراً في مدة عمره لضعف بنائه وقصر أمله وزهده في إحكام البنيان، وكان منهم من إذا حج أو غزا نزع بيته أو وهبه لجيرانه، فإذا رجع أعاده، وكانت بيوتهم من الحشيش والجلود وهي عادة العرب الآن ببلاد اليمن، وكان ارتفاع بناء السقف قامة وبسطة.
[*] وقال الحسن: كنت إذا دخلت بيوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضربت بيدي إلى السقف.
[*] وقال عمرو بن دينار: إذا أعلى العبد البناء فوق ستة أذرع ناداه ملك: إلى أين يا أفسق الفاسقين؟.
[*] وقد نهى سفيان عن النظر إلى بناء مشيد وقال: لولا نظر الناس لما شيدوا فالنظر إليه معين عليه.
[*] وقال الفضيل: إني لم أعجب ممن بنى وترك، ولكن أعجب ممن نظر ولم يعتبر.
[*] وقال ابن مسعود رضي الله عنه: يأتي قوم يرفعون الطين ويضعون الدين ويستعملون البرازين. يصلون إلى قبلتكم ويموتون على غير دينكم.
- رابعاً بيان الزهد في أثاث البيت:
وللزهد فيه أيضاً درجات: أعلاها حال عيسى المسيح صلوات الله عليه وسلامه وعلى كبد عبد مصطفى، إذ كان لا يصحبه إلا مشط وكوز فرأى إنساناً يمشط لحيته بأصابعه، فرمى بالمشط، ورأى آخر يشرب من النهر بكفيه فرمى الكوز، وهذا حكم كل أثاث، فإنه إنما يراد المقصود، فإذا استغنى عنه فهو وبال في الدنيا والآخرة، وما لا يستغنى عنه فيقتصر فيه على أقل الدرجات وهو الخزف في كل ما يكفي فيه الخزف ولا يبالي بأن يكون مكسور الطرف إذا كان المقصود يحصل به.
وأوسطها أن يكون له أثاث بقدر الحاجة صحيح في نفسه ولكن يستعمل الآلة الواحدة في مقاصد، كالذي معه قصعة يأكل فيها ويشرب فيها ويحفظ المتاع فيها، وكان السلف يستحبون استعمال آلة واحدة في أشياء للتخفيف.
وأدناها أن يكون له بعدد كل حاجة آلة من الجنس النازل الخسيس، فإن زاد في العدد أو في نفاسة الجنس خرج عن جميع أبواب الزهد وركن إلى طلب الفضول، ولينظر إلى سيرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين الاعتبار: