لعمرُك ما يغني الثراءُ عنِ الفتى إذا حَشْرجَتْ يوماً وضاق بها الصدر، فنظر إليها كالغضبان ثم قال: ليس كذاك يا أم المؤمنين ولكن {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}(ق: ١٩)، إنِّي قد كنت نحلتك حائطاً، وإِن في نفسي منه شيئاً، فردِّيه إلى الميراث. قالت: نعم، فرددته؛ فقال: أما إنَّا منذ وُلِّينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنَّا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فَيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجَرْد هذه القطيفة؛ فإذا متُّ فابعثي بهنَّ إِلى عمر وابرئي منهن، ففعلت. فلما جاء الرسول عمر بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول: رحم الله، أبا بكر، لقد أتعب من بعده رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده يا غلام إرفعهنَّ. فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: سبحان الله، تسلُب عيال أبي بكر عبداً حبشياً وبعيراً ناضحاً وجَرْدَ قطيفة ثمنَ خمسة الدراهم؟ قال: فما تأمر؟ قال: تردهنَّ على عياله، فقال: لا والذي بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحق ـ أو كما حلف ـ لا يكون هذا في ولايتي أبداً، ولا خرج أبو بكر منهنَّ عند الموت وأردهن (أنا) على عياله الموت أقرب من ذلك.
[(٧) تفقده لأحوال الناس ومحتاجيهم:]
أخرج الخطيب عن أبي صالح الغِفاري أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتعاهد عجوزاً كبيرة عمياء في حواشي المدينة من الليل، فيستسقي لها ويقوم بأمرها، وكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت. فجاءها غير مرّة فلا يُسبق إليها، فرصده عمر فإذا هو بأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهما ـ الذي يأتيها وهو خليفة. فقال لعمر: أنت لعمري كذا في منتخب الكنز.
(٨) وكان أبو بكر ممن يُفتي على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ولذا بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أميراً على الحج في الحجّة التي قبل حجة الوداع
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة، في مؤذنين يوم النحر، نؤذن بمنى: ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليا، فأمره أن يؤذن بـ "براءة". قال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.