وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين، وحذرنا مثل مصارعهم وذم من رضي بها واطمأن إليها، ولعلمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل خطراً، وهي دار البقاء، يضاف إلى ذلك معرفته وإيمانه الحق بأن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، فأما ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[المائدة:٨٧]
[باب: حقيقة الزهد]
مسألة: ماذا نعني بالزهد؟
نعني بالزهد استصغار الدنيا، والحذر من طغيانها وسيطرتها على القلب.
طلب عمر بن عبد العزيز رحمه الله النصيحة من الحسن رحمه الله تعالى، فكتب إليه الحسن: إن رأس ما هو مصلحك ومصلح به على يديك: الزهد في الدنيا، وإنما الزهد باليقين، واليقين بالتفكر، والتفكر بالاعتبار، فأنت إذا فكرت في الدنيا لم تجدها أهلاً أن تبيع بها نفسك، ووجدت نفسك أهلا أن تكرمها بهوان الدنيا، فإن الدنيا دار بلاء ومنزل قُلْعَةٍ. (أي دار رحيل وانتقال).
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبهما موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي أيوب رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا قمت في صلاتك فَصَلِ صلاةَ مُوَدِّعٍ و لا تكلم بكلام تَعْتَذِرُ منه وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إذا قمت في صلاتك) أي شرعت فيها
(فصل صلاة مودع) أي إذا شرعت فيها فأقبل على الله وحده ودع غيره لمناجاة ربك (ولا تكلم) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً
(بكلام تعتذر منه) أي لا تتكلم بشيء يوجب أن يطلب من غيرك رفع اللوم عنك بسببه