وفصل الخطاب في فضائل الزهد: هو ما قاله الفضيل ابن عياض: جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال: لا يسلم لك قلبك حتى لا تبالي من كل الدنيا، وقيل للفضيل: ما الزهد في الدنيا؟ قال: القنع وهو الغنى، وقيل: ما الورع؟ قال: اجتناب المحارم. وسئل ما العبادة؟ قال: أداء الفرائض. وسئل عن التواضع قال: أن تخضع للحق، وقال: أشد الورع في اللسان، وقال: التعبير كله باللسان لا بالعمل. وقال: جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا. وقال: قال الله عز وجل: إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني.
[باب: حاجة الناس إلى الزهد]
إن الزهد في الدنيا ليس من نافلة القول، بل هو أمر لازم لكل من أراد رضوان الله تعالى والفوز بجنته، ويكفي في فضيلته أنه اختيار نبينا محمد وأصحابه،
[*] قال ابن القيم رحمه الله: لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، أو منهما معاً.
ولذا نبذها رسول الله وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم، وهجروها ولم يميلوا إليها، عدوها سجناً لا جنة، فزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب، ولكنهم علموا أنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف ينقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل.
[باب: كيف يزهد العبد في الدنيا ويرغب في الآخرة]
[*] قال ابن القيم -رحمه الله-: لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
النظر الأول: النظر في الدنيا، وسرعة زوالها وفنائها، واضمحلالها، ونقصها، وخستها، وألم المزاحمة عليها، والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص، والأنكاد، وآخر ذلك الزوال، والانقطاع، مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها، فهذا أحد النظرين.
النظر الثاني: النظر في الآخرة، وإقبالها، ومجيئها ولابد، ودوامها، وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات، والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا، فهي كما قال تعالى:(وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى:١٧].
فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة.