للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه، فكل أحدٍ مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة، إلا تبين له فضل الآجل على العاجل، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل.

فإذا آثر الفاني الناقص، كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل.

وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان، وضعف العقل والبصيرة فإن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها، إما أن يُصَدِّق بأن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى، وإما أن لا يصدق. فإن لم يصدق بذلك كان عادمًا للإيمان رأسًا، وإن صدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل، سيء الاختيار لنفسه، وهذا تقسيم حاضر ضروري، لا ينفك العبد من أحد القسمين منه، فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، وما أكثر ما يقوم منهما، ولهذا نبذها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم، وأطرحوها ولم يألفوها، وهجروها ولم يميلوا إليها، وعَدُّوها سجنًا لا جنة، فزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب، فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها، وفاضت على أصحابه فآثروا بها، ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها، وعلموا أنها معبر لا ممر، لا دار مقام ومستقر، وأنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذّن بالرحيل.

قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها)

وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما الدنيا في الآخرة، إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بما ترجع)

وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها، وغفل عن آياته، ولم يرج لقائه، فقال: ({إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ). [يونس:٧، ٨].

من كتاب (خواطر إيمانية) لـ د/أحمد فريد

<<  <  ج: ص:  >  >>