إن تلك المعاني العظيمة التي فجرها كلام الحافظ ابن القيم رحمه الله ينبغي كتطبيق عملي لها أن يراجع كل منا نفسه ـ خاصة من تميز في علمه أو فكره ـ مراجعة قوية صريحة، كيف هو في قوته العملية؟ أين قلبه؟ أين عبادته؟ أين سلوكه واستقامة لسانه وجوارحه؟ أين ورعه؟ أين بذله وعطاؤه وتضحيته من أجل هذه الدعوة؟ وليجعل كلٌّ منَّا هَمَّ الليل والنهار بالنسبة له أن ينهض بقوته العملية لتوافق ما يَعْلَمُهُ وما يفكر فيه وما يدعو إليه، فإن أبينا ذلك وقعد بنا الضعف، وعجزت عن ذلك نفوسنا المكبلة بقيود الدنيا وشهواتها، وقلوبنا الضعيفة المشتتة في أوديتها فلا ينبغي أن نستعلي على غيرنا أو نتمسح بالدعوة أو نظن أنفسنا أننا أصحاب إرادة قوية أو منهج جاد للتغيير، ويظل الناس في انتظار الخير مِنْ قِبَلِنَا فلا يجدونه، بل الأولى أن نكون صرحاء مع أنفسنا ومع الناس، ونفسح الطريق لأصحاب قلوب جديدة قوية حية، وأصحاب صدق وبذل وتضحية وعطاء، أصحاب قوة عملية فعالة، ليتقدموا إلى الراية ويسيروا بالقافلة ونكون تبعًا لهم، فربما كانوا خيرًا منا {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[محمد: ٣٨].
[منازل التزكية:]
(للتزكية منازل عظيمة، منازل التزكية هي منازل السائرين إلى رب العالمين، «منازلٌ ينتقل فيها القلب منزلة منزلة في حال سيره إلى الله» هي منازلٌ كالمناراتِ الراسيةِ القواعد المُشَيَّدةِ الأركان الثابتةِ الوطائد، منازلٌ مشرقةٌ مضيئة أضوائها لامعة ونجومها ساطعة، «يستمد السائر إلى الله تعالى» من نورها نوراً ومن ضيائها لمعاناً ليضيء له الطريق أثناء سيره إلى الله تعالى، فيكون في سيره إلى الله تعالى متحلياً باليقظة والبصيرة والمعرفة والمحبة والخوف والرجاء والتقوى والاستقامة والتوبة والإنابة والخشوع والخضوع والإخبات والصبر والشكر والرضا واليقين والتوكل والصدق والمراقبة والرغبة والرهبة وغيرها، واعلم أن لِكُلِ منزلة مفهوماً وَحَدَاً، وَلِكُلِ منزلة ثلاث درجات واحدة تليق بعامة المسلمين وأخرى لخاصة المؤمنين وثالثة للمحسنين للمقربين، كما بينه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. (